حسن شرف الدين |
جلس في غرفة العناية، ينتظر المرض كي يفارقه. جاءه ذاك الممرض يسأل و في يده استمارة يسأل كما “الپروتکول ” المعهود، “ما اسمک یا عم ؟ ماذا تعمل ؟ أجابه بلكنته الجنوبية المعهودة ” أني مسحّر عند ربنا ، عامل معه اتفاق طالما أخدم الناس طالما يطيل في عمري”. استعجب الممرض فهو من عادته أن يسمع غير جواب، فلان فلاني ذو المنصب الفلاني . مضت تلك الايام على خير فارقه المرض عاد لعمله الممتد من الفجر الى النجر ، لا يتعبه سوى آهات المعذبين و تقصير المسؤولين و لا يريحه سوى تلك الاستكانة عصرًا. “تلات رباع ب ربع مع ربع ملعقة سكر” المقادير الدقيقة لرجل ما بخل بدقيقة في خدمة الناس. كنت حفظتها عن ظهر قلب فكنت أنتظره منذ نعومة أظافري ، أسرق منه بعض الوقت ، آنس بجلسات الشاي التي ما كان يفوتها.يومًا بعد يوم كنا نكبر، و كانت تلك الجلسات تثمن و تندر، آهات المعذبين تزيد و تقصير المسؤولين الى مزيد، و “المُسحّر” ما بين النجر و الفجر يتتبع الأصداء بلا انقطاع ، إن تألم تكبر على آلامه و سار كمسير الجلجلة الى قيامة من العذابات بما يحمل كاهله.يوما بعد يوم مقادير الشاي ضعفت، “التلات رباع ب ربع ” تقلصت الى النصف ، و عوض بمكانه بعض الزهورات و سكر النبات. الصدر بات يختنق بآهات المعذبين و البرد يشتد و المسؤولين غافيين .لكن الجدّ المُجدَّ لم بآبه لا بعاصفة ولا بمطر ، اذكر جيدًا في احد الأيام كنت اسمع صوت الخرير في صدره و لكن صوت المُعذبّين كان يغلب على سمعه ، في وسط العاصفة قام بين القرى فقد شكوا من قطع الماء ، فسارعهم لم يغب عنهم و بإرادة و عزيمة أعاد المياه لمجاريها. ذاك يومٌ واحد من آلاف الأيام و ميل واحد من آلاف الاميال ، قطعها ، كما من يحب ذاك المُغيّب الذي ما غاب عنه، في سبيل الإنسان. مضت أيام ، عبقات الصدر تخالجه ، و الآلام تحاصره و هو يمضي إلى أن صار التكابر على الآلام صعبًا، فاستراح قليلا علّها استراحة محارب. كنت بعيدًا آنذاك ، لا أعلم ما يجري ، بعيدًا عن استكانة ” التلات رباع ب ربع” افتقدها و ليس لي من سبيل بأن أوصلها ليدي ذاك” المُسحِّر”المجبولة بالزعتر و الزيتون فهو ابن الأرض ما غاب عنها يومًا و كم آلمه في تلك الأيام الغياب.ارتقب الأخبار من وراء البحار ، لا سبيل لي لسيدة البحار و حيرام قلوبها ، سوى الدعاء. مرّت ليالٍ بمرارة العلقم ، أنتظر اللاجواب. راودتني رؤية فجر أحد الأيام ، رأيته بثياب بيضاء ، قام يمشي ، فبادرته بتحية و عناق طويل ، احتضن كل الأشواق و كل الجلسات و الاستكانات و ما لبث أن استفقت. استفقت فرحًا لعلها البشرى ، لي سبيل الى سيدة البحار و سأعاود جلسات “التلات رباع ب ربع ” مع حيرام قلوب صور ، يفصلني القليل و ما أكثره. أدمت الدعاء يومها و امتد ايام اصبو للبشرى الى ذاك اليوم ، كنت جالسًا ، ارتقب خبرًا ، حدثًا ، الى ان وصلني تسجيل لأحد الأصدقاء ” العوض بسلامتكم، الله يرحم الخال و سيبقى الخال..” و لم اتم سماع التسجيل قمت من مكاني و اصبت بصدمة ، اين الثوب الأبيض أين البشرى … و مرت الأيام بمرارة العلقم الى أن حال سبيل لي الى سيدة البحار لم افكر حينها لم أعلم و لم أرَ شيئًا سوى الرداء الأبيض الذي كان يرتديه، و عندها علمت أنه رداء الوداع الآخير الذي لم ينتهِ ب ” تلات رباع بربع” ولا بقبلة الجبين، انتهى فقط هناك في رؤياي و لكنه دام في مرآي ، كلما أصب استكانة ، كلما سمعت آهات معذب ، كلما رأيت منّاعين للحق ، رأيت “المُسحّر”الذي قال لي يومًا :”قُل كلمتك كالسيف” و امضي بالكلمة الطيبة في سبيل خدمة الإنسان . لا زالت ذاك الخرير في الصدر أسمعه مع الآهات و لا زالت طريق الجلجلة أراها ، و لا زالت كلمات السيف اسمعها و أرددها و لم يمُّر يوم دونها . الرداء الأبيض ، لباس المؤمنين التقاة الذين وصلوا مستبشرين ، نعم هذا التفسير ، وصل “المسحّر” الذي ما دام مُسحّرًا الى الرمق الأخير ، حيث كان يسأل و هو على فراش مرضه -وليس فراش موته- “ما حال معلمي الجامعة اللبنانية في صور هل كرمتوهم؟ هل يصلون لجامعتهم؟” متى تصبح فرعًا و ليس شعبة كي لا أرى الطلاب مُعذبين على الطريق في سبيل العلم فهم ولايا لا اريد لهم المشقة” هذه الآلام التي علت فوق آلامه و لم يمت ، فالفكر لا يموت و الساعي في الحق لا يموت ، الأصنام تموت ، المسؤولون في المناصب ذوي المكاسب يموتون ، لكن “المُسحّر” في غفلة هذه الأمة لا يموت ، و يخلد كما عرفوه طيبًا طيبة الخال، مضت سنتان و تمضي سنوات و يبقى الخال و كل ما علمني من أن الحق لا يعلو عليه شيء ، و أن الظلم و الظلاميين و العتاة و السارقين الجباة كلهم فانون و يبقى صوتك يصدح في القلب و النفس و الدم و الوجدان قبل الآذان …