الرئيسية / ثقافة عامة / الإعلاميّ سركيس الشّيخا الدّويهي من جنيف: إنّ الأطفالَ في الدّولِ العربيّةِ أمانةٌ في أعناقِنا

الإعلاميّ سركيس الشّيخا الدّويهي من جنيف: إنّ الأطفالَ في الدّولِ العربيّةِ أمانةٌ في أعناقِنا

ألقى الإعلاميّ والكاتب سركيس الشّيخا الدّويهي محاضرةً في قصر الأمم المتّحدة في جنيف عن الآثار الجسديّة والنّفسيّة للحرب على الأطفال في النّدوة الّتي نظّمتها جمعيّة البراعم للعمل الخيريّ والإنسانيّ عن آثار الحرب على الأطفال. وجاء في كلمته:

أيّتُها السّيّداتُ، أيُّها السّادةُ،

لا جِدالَ في أنّ الحروبَ أبشعُ من الطّاعونِ، وأكثرُ خُبْثًا من السّرطانِ، وأشدُّ إيلامًا من ضيقِ المفاصِلِ، وأكثرُ استنزافًا من السُّكَّرِيِّ، لكنّ الإنسانَ يَخوضُها، مِرارًا وتَكرارًا، بِكَمٍّ هائلٍ من القَسوةِ والعُنْفِ والوَحشيّةِ، ضاربًا بعِرْضِ الحائطِ كلَّ الأخلاقيّاتِ الإنسانيَةِ، وكلَّ الاتّفاقيّاتِ الدّوليّةِ الّتي تَنُصُّ على حمايةِ المَدَنِيّينَ في وقتِ الحربِ، وخصوصًا الأطفال.

لا تحملُ الحروبُ في أحشائِها سوى الألمِ والموتِ والمعاناةِ، ولا تُوَلِّدُ سوى البُؤْسِ والفَوْضى والدَّمارِ. ويُعْتَبَرُ الأطفالُ الشّريحةَ الأكثرَ تضرُّرًا في الصّراعاتِ والنّزاعاتِ المسلَّحةِ الَدّوليّةِ والدّاخليّةِ، كَوْنَهُم غيرَ قادِرينَ على حمايةِ أنفسِهِم والدّفاعِ عنها. لذلك، أَوْلى القانونَ الدّوليُّ الإنسانيُّ واتّفاقيّاتُ جنيف اهتمامًا خاصًّا بالأطفالِ، بوصفِهِم أكثرَ الفئاتِ تعرُّضًا للإصابةِ وتأثُّرًا بوَيْلاتِ الحربِ الّتي تؤثّرُ عليهِم بشكلٍ أعمقَ وأكبرَ من تأثيرِها على البالغين.

إنّ الأطفالَ هُم أولئكَ الّذين تُزْهَقُ أرواحُهم في الميادينِ، وتُبْتَرُ أطرافُهُم وتطلُّعاتُهم، وتُدَمَّرُ أحلامُهُم، وتُشَوَّهُ ذاكرتُهُم. فكم من طفلٍ يتّمتْهُ الحربُ، وشرّدَتْهُ، ففقدَ بين النّارِ والدّمارِ عذريّةَ أحلامِهِ!

لايزالُ ملايينُ الأطفالِ في أماكنَ مُخْتَلِفَةٍ من العالمِ يدفعونَ ثمنَ حروبٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا جَمَلَ، فيتعرّضونَ لمختلِفِ أشكالِ العنفِ الجسديِّ والنّفسيِّ، كالتّشويهِ والتّعذيبِ، ويشمُلُ التّعذيبُ الضّربَ بالأسلاكِ المعدِنيّةِ والسِّياطِ والعِصِيِّ الخشبيّةِ والمعدِنيّةِ، والصّدماتِ الكهرَبائيّةَ، بِما في ذلك على الأعضاءِ التّناسليّةِ، وسحبَ أظفارِ اليدَيْنِ والقدَمَيْنِ، والاغتصابَ، والتَهديدَ بالاغتصابِ، والحرقَ بأعقابِ السّجائرِ، والحُرمانَ من النّومِ، وعمليّاتِ إعدامٍ وَهْمِيَّةً، والحبسَ الانفراديَّ، ومشاهدةَ تعذيبِ أو قتلِ الوالدَيْنِ والأقاربِ. كما لا يزالُ ملايينُ الأطفالِ في العالمِ يُجَنَّدونَ في أعمالِ القتالِ، أو في الجاسوسيّةِ، ويُرْغَمونَ على ارتكابِ أعمالِ عنفٍ، ويُستَغَلّونَ كدروعٍ بشريّةٍ، ويُعانونَ من السَّجْنِ، والاعتقالِ، والتَّشَرُّدِ، والنّزوحِ، والاعتداءاتِ الجنسيّةِ، والإتْجارِ بالبشرِ، وسوءِ التّغذيَةِ، والجوعِ، والعطشِ، والمرضِ، واليُتْمِ، والمشاهدِ العنيفةِ، والإعاقةِ، وفُقدانِ أحدِ الأعضاءِ أو إحدى الحواسّ.

تترُكُ الحروبُ آثارَها السّيّئةَ على أجسادِ الأطفالِ، وفي أعماقِ نفوسِهِم، لتُرافِقَهُم طِوالَ سنواتِ حياتِهم. فالصَّدَماتُ النّفسيّةُ الّتي يتعرّضُ لها الطّفلُ بفعلِ الإنسانِ أقسى من الّتي يتعرّضُ لها من جرّاءِ الكوارثِ الطّبيعيّةِ، وأكثرُ رسوخًا بالذّاكرةِ. ويزدادُ الأمرُ صعوبةً وتعقيدًا إذا تكرّرَتْ هذه الصَّدَماتُ في فتراتٍ متقاربةٍ، فتؤدّي إلى مشكلاتٍ نفسيّةٍ عميقةٍ وجسديّةٍ، يكونُ لها تأثيراتٌ كبيرةٌ على صحّةِ الطّفلِ، وحركتِهِ، ونُطقِهِ، كالقلقِ الشّديدِ، والخوفِ، والفوبيا، وعدمِ الشّعورِ بالأمانِ، والانعزالِ، والتّبوّلِ اللّا إراديِّ، وقضمِ الأظفارِ، والتَأتأةِ، وضُعْفِ التّركيزِ، وفقدانِ الوزنِ، والاضطراباتِ التّعلُّميّةِ، والفشلِ المدرسيِّ، والصُّداعِ، والنّسيانِ، والصّعوبةِ في التّنفّسِ، والتّقيُّؤِ، والآلامِ الوهميّةِ، والكوابيسِ، وسرعةِ الاستثارةِ الانفعاليّةِ، كالصّراخِ أو البكاءِ بلا سببٍ، والتّوتُّرِ المستمرِّ، والغضبِ لأتفهِ الأسبابِ، والتّعامُلِ بخشونةٍ وعنفٍ مع الآخرينَ.

ففي اليمنِ، على سبيلِ المِثالِ، وحَسَبَ النّاطِقِ باسمِ وَزارةِ الصّحّةِ والسّكّانِ الدّكتور يوسف الحاضري، ووَفْقَ تقاريرَ للأممِ المتّحدةِ، بَلَغَ عددُ الأطفالِ الّذينَ قُتِلوا منذ بدايةِ العُداونِ على اليمنِ 3495، وعددُ الأطفالِ الجَرحى 3497. ومَنْ نَجا من القذائفِ والصّواريخِ المُدَمِّرَةِ، لم ينجُ من الجوعِ والعطشِ. وقد أسفرَ العُدوانُ الحِصارُ عن إصابةِ 203297 طفلًا بمرضِ الملاريا، و330 طفلًا بمرض السّلِّ الرّئويِّ، و7440 طفلًا بالاتهابِ الكبدِ الوَبائيّ، و1203 أطفالٍ بمرضِ الحُمّى المالطيّة، وآلافِ الأطفالِ الآخرينَ بأمراضٍ وَبائيّةٍ مختلِفةٍ في الجهازِ التّنفّسيِّ والجهازِ الهضميِّ، وبأمراضِ الجلدِ المُزْمِنَةِ، وأمراضِ الدَّمِ الخطيرةِ.

أمّا في سوريا، فقد أرخَتِ الحربُ لحيتَها، وانتهكَتِ البراءةَ، واغتصبَتِ الطّفولةَ، وَسَطَ دَوِيِّ القذائفِ وأزيزِ الرّصاصِ. ففي تقريرِ اليونيسف أرقامٌ مُرْعِبَةٌ عن معاناةِ الأطفالِ السّوريّينُ: أكثرُ من 26446 طفلًا قُتِلوأ منذ اندلاعِ الحربِ، ونحوَ 25 ألفَ طفلٍ يتسوَّلونَ في شوارعِ المدنِ والقُرى السّوريّةِ، وأكثرُ من ثلاثةِ ملايين ومِئَتَيْ ألفِ طفلٍ حُرِموا من الدّراسةِ، وأكثرُ من مليون طفلٍ نزحوا إلى دولِ الجوارِ، مِنْهُمْ نحوَ ثمانيةِ آلافِ طفلٍ غيرِ مصحوبِ بذويه.

في الحربِ، كي نستمرَّ علينا أنْ نحاربَ الذّاكرةَ أوّلًا، فهي العدوُّ الأخطرُ، إذ لها دائمًا حقولُ ألغامٍ تترُكُنا “معطوبي أحلام”.

إنّ ملايينَ الأطفالِ على مستوى العالمِ يرزَحونَ تحتَ نيرِ الحربِ، ويتعرَّضونَ لمختلِفِ أنواعِ العنفِ والاستغلالِ، ما يُهَدِّدُ نموَّهُم الجسديَّ والنّفسيَّ، وتَطَوُّرَ حياتِهِم الاجتماعيّةِ. وعلى الرَّغمِ من أنَّ اتّفاقيّاتِ القانونِ الدَّوْليِّ الإنسانيِّ حظَّرَتْ تجنيدَ الأطفالِ وإشراكَهُمْ في النِّزاعاتِ المُسَلَّحَةِ، حفاظًا على حياتِهِمْ، إلّا أنّ ذلك لم يمنعْ عددًا كبيرًا من الميليشاتِ المسلَّحَةِ والمُنَظَّماتِ والجماعاتِ الإرهابيّةِ المُتَطَرِّفَةِ حولَ العالمِ، من تجنيدِ أطفالٍ في صفوفها، من دونِ أيّةِ مُراعاةٍ لأحكامِ ومبادئِ القانونِ الدَّوْليِّ الإنسانيِّ.

لقدْ شَهِدَ الأطفالُ في منطقةِ الشّرقِ الأوسطِ وشِمالِ إفريقيا مستوياتٍ غيرَ مسبوقَةٍ من العنفِ، وأهوالًا لا يَنْبَغي لأحدٍ أنْ يَشْهَدَها. وإذا استمرَّ العنفُ في منطقتِنا على هذا المِنوالِ، فإنَّ العَواقِبَ ستكونُ وَخيمةً على العالمِ كلِّهِ، وليسَ فقط على مناطقِ النّزاعِ.

إنّ أطفالَ اليمنِ، والعراقِ، وسوريا، وفلسطين، وغيرِها من الدّولِ العربيّةِ أمانةٌ في أعناقِنا. فَكَمْ من الأطفالِ العربِ تُرِكوا في هذه الحروبِ عُراةً من أيّةِ حمايةٍ أو رِعايةٍ، ومن دونِ أيِّ جَناحٍ يحتمونَ في ظلِّهِ، وَسَطَ بُرَكِ الدِّماءِ، وتحتَ وابِلِ النّيرانِ، ورُكامِ المباني المُدَمَّرَةِ! لذلكَ، يجبُ علينا جميعًا أن نعمَلَ بجِدِّيَّةٍ أكثرَ من أجلِ توفيرِ حمايةٍ أكثرِ فاعليّةٍ لهؤلاءِ الأطفالِ، من خلالِ تأمينِ رعايةٍ أُسَرِيَّةٍ لَهُمْ، أو رعايةٍ بديلةٍ مُناسِبَةٍ عندَ حِرمانِهِمْ من البيئةِ الأُسَرِيَّةِ، وتغذيةٍ أساسيّةٍ، ومأوًى، وخِدْماتٍ صحّيّةٍ أساسيّةٍ، ورعايةٍ نفسيّةٍ، وخِدْماتٍ اجتماعيّةٍ، وتوفيرِ حمايةٍ من سوءِ المعاملةِ، أو الإهمالِ، أو الاستغلالِ، أو الإهانةِ، ليَنْمُوَ أطفالُنا، كما يَسْتَحِقّونَ، في جوٍّ من الأمانِ، والاستقرارِ، والسّلامِ. فهل مِنْ سَميعٍ مُجيبٍ؟

شاهد أيضاً

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم