“إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”
إنّ كلّ الأيام والأشهر لله سبحانه، ولكلّ يوم أو شهر خصوصية؛ لما فيه من معطيات وأحداث أثّرت في واقع الأمة، فتعطي الشهر قداسة يمتاز بها عن غيره من الشهور، وشهر رجب من أقدس الشهور في السنة الهجرية، فهو – وإن كان في الترتيب السابع– بداية الأشهر التي تدخلنا في ضيافة الرحمن؛ رجب شعبان وشهر رمضان، وأيضاً هو من الأشهر الحُرُم التي كان العرب في الجاهلية يُحرّمون فيها القتال، تذكر بعض المصادر أنّ كلمة رجب من الرجوب أي التعظيم، وكان يُطلق على شهر رجب اسم مضر؛ لأنّ قبيلة مضر حافظت عليه في وقته، فلم تكن تغيّره في ترتيب الشهوركما يفعل غيرها من العرب، إذ كانوا يغيّرون ترتيب الشهور وفقاً لحالة الحرب عندهم، وهو ما سمّي في القرآن بالنسيء، قال تعالى ” إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ” .
وسمّي رجب الأصب؛ لأنّ رحمة الله سبحانه تُصبّ فيه صبّاً، عن رسول الله (ص) قال:ألا إن رجب شهر الله الأصمّ ، وهو شهرٌ عظيمٌ ، وإنما سُميّ الأصمّ لأنه لا يقارنه شهرٌ من الشهور حرمةً وفضلاً عند الله تبارك وتعالى ، وكان أهل الجاهلية يعظّمونه في جاهليتها ، فلما جاء الاسلام لم يزدد إلا تعظيماً وفضلاً.
ألا إن رجب وشعبان شهراي ، وشهر رمضان شهر اُمتي .
في شهر رجب مناسبات وأحداث كثيرة وعظيمة، في السيرة أنه في الأول من رجب ركب نبي الله نوح (ع) السفينة حاملاً معه من كلّ زوجين اثنين، وفي الأول منه سنة 57 هـ كانت ولادة الإمام الباقر (ع)، وفي الثاني منه سنة 232هـ كانت ولادة الإمام الهادي (ع)، وفي الثالث منه سنة 254هـ كانت شهادة الإمام الهادي (ع)، وأوّل ليلة جمعة في شهر رجب تسمى ليلة الرّغائب؛ فيها أعمال روحية من صلاة وأدعية على المؤمن أن لا يتركها، وفي العاشر منه كانت ولادة الإمام الجواد (ع) سنة 195هـ، وفي الثالث عشر منه قبل البعثة بعشر سنوات كانت ولادة سيد الأوصياء وإمام المتقين أمير المؤمنين (ع)، وفي يوم 15 منه في السنة الثانية للهجرة كان تحويل قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة، وفي 24 منه في السنة السابعة للهجرة فتح أمير المؤمنين (ع) حصون خيبر، وفي 25 منه سنة 183هـ شهادة باب الحوائج الإمام الكاظم (ع) في سجن السندي بن شاهك بأمر من هارون اللا رشيد، وفي السابع والعشرين منه كانت بعثة خاتم الأنبياء محمد (ص) بخاتمة الرسالات السماوية، وبها أنقذ الله البشرية من الظلالة والعمى، عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لا تدع صيام سبعة وعشرين من رجب؛ فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد (ص) . وهناك روايات تشير إلى أنّ رحلة الإسراء والمعراج التي أكرم الله فيها حبيبه محمداً (ص) كانت في شهر رجب .
إنّ رجب شهر عظيم، تظافرت الروايات عن النبي (ص) والأئمة (ع) لتتحدّث عن عظمة هذا الشهر، فهو شهر مليء بالنعمات الإلهية التي أمرنا رسول الله (ص) أن لا نتركها، قال (ص): إنّ لربّكم في أيام دهركم نعمات؛ ألا فتعرّضوا لها ولا تُعرضوا عنها . ويستحب في شهر رجب إحياء بعض الليالي كليلة الرغائب في أول جمعة فيه، ويُستحب فيه الصوم، عن الإمام الكاظم (ع) قال: رجبُ نهرٌ في الجنّةِ أشدُّ بياضاً مِنَ اللّبنِ، وأحلى منَ العسلِ مَنْ صامَ يوماً من رجب سقاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ منْ ذلكَ النّهر . وقال (ع): مَنْ صامَ يوماً منْ رجب تباعَدتْ عنهُ النّار مسيرَ سنةٍ، ومن صامَ ثلاثةَ أيامٍ وجبتْ لهُ الجنّة .
ولعظيم ثواب الصوم في هذا الشهر كان الأئمة (ع) يحثّون شيعتهم على الصيام في أيامه؛ منها ما قاله الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه – وقد بقي أيام من رجب -:يا سالم، هل صمت في هذا الشهر شيئاً؟ قلت: لا والله يا بن رسول الله. فقال لي: لقد فاتك من الثواب ما لم يعلم مبلغه إلاّ الله عزّ وجل، إنّ هذا الشهر قد فضّله الله تعالى وعظّم حرمته وأوجب للصائمين فيه كرامته.ويُستحب فيه الاستغفار والدعاء؛ عن رسول الله (ص):رجبُ شهرُ الاستغفارِ لأمتي، فأكثروا فيهِ الاستغفارَ فإنّهُ غفورٌ رحيمٌ، ويسمّى الرجبَ الأصبَّ لأنَّ الرّحمةَ على أمّتي تصبُّ صبّاً فيه، فاستكثروا منْ قولِ “اَسْتَغْفِر اللهَ وَاَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ ” .وكان الإمام الصادق (ع) إذا دخل شهر رجب يدعو بهذا الدعاء في كلّ يومٍ من أيامه:إلهي خاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرضون إلا لك، وضاع الملمّون إلا بك، وأَجْدَبَ المنتجعون إلا من انتجع فضلك، بابك مفتوح للراغبين، وخيرك مبذول للطالبين، وفضلك مباح للسائلين، ونيلك متاح للآملين، ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين، وسبيلك الإبقاء على المعتدين. أللهم فاهدني هدى المهتدين، وارزقني اجتهاد المجتهدين، ولا تجعلني من الغافلين المبعدين، واغفر لي يوم الدين”.وكان (ع) يدعو بعد كلّ فريضة – صباحاً ومساءً -:” يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة، أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الاخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة، فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم”. قال: ثم مد أبوَعبد الله عليه السلام يده اليسرى فقبض على لحيته ودعا بهذا الدعاء وهوَيلوذ بسبابته اليمنى، ثم قال: بعد ذلك: “يا ذا الجلال والإكرام يا ذا النعماء والجود، ياذاالمن والطَّوْل، حرم شيبتي على النار” .
رجب وشعبان وشهر رمضان أشهر فيضٍ ورحمةٍ من الله سبحانه يفيضها على عباده الذين يفزعون إليه، فلا بدّ للمؤمن أن يفزع إلى الله سبحانه، ويحاسب نفسه، فيجلس بين يدي الله سبحانه ليعترف بذنوبه ويستحضرها وينشغل بالاستغفار، لأنّ الله سبحانه يغفر لمن استغفره، ويتوب على من تاب إليه .
إنّ رجب شهر المناسبات الإسلامية؛ فلنُحيي هذه الذكريات بالالتزام بما بُعث به رسول الله (ص)، حيث أنه شهر البعثة النبوية، ونستعرض حياة من وُلدوا واتُشهدوا في هذا الشهر من أئمة أهل بيت النبوة (ع)؛ لنعمل على الاقتداء بهم والسير على نهجهم، فنوالي من والوا، ونعادي من عادوا، لنكون حقاً ممن يُحيي أمرهم، ويدعو إليهم بالاقتداء بهم بالأعمال الصالحة، لنكون دعاةً لهم (ع) بغير ألسنتنا .
من أفضل الأعمال في شهر رجب الصوم، عن ابن عباس قال:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِذَا جَاءَ شَهْرُ رَجَبٍ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ حَوْلَهُ وَقَامَ فِيهِمْ خَطِيباً فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ وَهُوَشَهْرُ الْأَصَبِّ يُصِيبُ فِيهِ الرَّحْمَةَ عَلَى مَنْ عَبَدَهُ إِلَّا عَبْداً مُشْرِكاً أَوَمُظْهِرَ بِدْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ.أَلَا إِنَّ فِي شَهْرِ رَجَبٍ لَيْلَةً مَنْ حَرَّمَ النَّوْمَ عَلَى نَفْسِهِ وقَامَ فِيهَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ وَصَافَحَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمٍ مِثْلِهِ فَإِنْ عَادَ عَادَتِ الْمَلَائِكَةُ. ثُمَّ قَالَ:مَنْ صَامَ يَوْماً وَاحِداً مِنْ رَجَبٍ أُومِنَ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ وَأُجِيرَ مِنَ النَّار.
وعن الإمام الكاظم (ع):مَنْ صامَ يوماً منْ رجب تباعَدتْ عنهُ النّار مسيرَ سنةٍ، ومن صامَ ثلاثةَ أيامٍ وجبتْ لهُ الجنّة .
وفي الحديث عن النبي (ص):لا تغفلوا عنْ أولِ ليلةِ جمعة منهُ، فإنها ليلةُ تسميها الملائكةُ ليلةَ الرغائبِ، وذلك أنه إذا مضى ثلثُ الليلِ لم يبقَ ملكٌ في السماواتِ والأرضِ إلا يجتمعونَ في الكعبةِ وحواليها، ويطلعُ الله عليهم إطلاعةً فيقولُ لهم: يا ملائكتي سَلوني ما شَئتم، فيقولونَ ربَّنا حاجتُنا إليكَ أن تغفرَ لصوّامِ رجب، فيقولُ الله تبارك وتعالى: قد فعلتُ ذلك .
وورد عن رسول الله (ص):إن الله تعالى نصب في السماء السابعة ملَكاً يقال له الداعي، فإذا دخل شهر رجب نادى ذلك الملك كل ليلة منه الى الصباح يقول: “طوبى للذاكرين، طوبى للطائعين”، (يعني هنيئاً) ويقول الله تعالى: “أنا جليس من جالسني ومطيع من أطاعني وغافر من استغفرني. الشهر شهري والعبد عبدي..والرحمة رحمتي، فمن دعاني في هذا الشهر، أجبته وجعلت هذا الشهر حبلاً بيني وبين عبادي، فمن إعتصم به وصل إليّ .
روي عن سلمان المحمدي (رض) عن النبي (ص) أنه قال: من صام رجباً وجبت له الجنّة .
والمستحبات كثيرة في هذا الشهر، وهي مذكورة في مفاتيح الجنان وغيره من كتب الأدعية والزيارات، منها العمرة وزيارة أمير المؤمنين (ع) في ذكرى المبعث النبوي وزيارة سيد الشهداء (ع)، ومن لا يقوى على صوم شهر رجب فإنّ الله سبحانه عوّضه بأعمال يُحصّل فيها ثواب الصوم، في الحديث: سئل صلى الله عليه وآله وسلم: يا نبيَّ الله فمن عجز عن صيام رجب بضعفٍ أوَعلة كانتا به… يصنع ماذا لينال ما وصفتَ؟ قال: يتصدق عن كل يوم برغيف، والذي نفسي بيده أنه من تصدَّق بهذه الصدقة كل يوم، ينال ما وصفتُ وأكثر لأنه لوَاجتمع جميع الخلائق كلهم من أهل السماوات والأرض على أن يقدّروا ثوابه؛ ما بلغوا عُشر ما يصيب في الجنان من الفضائل والدرجات” قيل: يا رسول الله فمن لم يقدر على الصدقة يصنع ماذا لينال ما وصفت؟.. قال: يُسبِّح الله في كل يوم من أيام رجب إلى تمام الشهر هذا التسبيح مائة مرة: “سبحان الإله الجليل سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان الأعز الأكرم سبحان من لبس العز وهوَله أهل” .
في مثل هذا اليوم الأوّل من شهر رجب سنة 57هـ كانت ولادة الإمام الباقر (ع)، الذي حضر كربلاء وكان له من العمر ثلاث سنوات، وفي المدينة المنوّرة شارك أباه الإمام زين العابدين (ع) في تأسيس مدرسة أهل البيت (ع)، فكان بعد والده الإمام والمعلّم الأوحد في زمانه، وكان المُتفرّد في علوم الدّين والدنيا، وكان له الأثر العظيم في توجيه الفكر الإسلامي إلى الاتجاه الصحيح والسليم، حيث سمحت الظروف له ولابنه الإمام الصادق (ع) أن يواجهوا الأفكار الضالة، وعلى يديهما نشأ الكثير من العلماء من مختلف الأقطار الإسلامية، قال الذهبي في ترجمة الإمام الباقر (ع):كان سيد بني هاشم في زمانه اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم يعني شقة وان اول من لقبه بذلك هو جده رسول الله ص واله ، وكان هو المتفرد في علوم الاسلام في عصره كما اتضح ذلك من سيرته وسمي بالباقر لانه تبحر في العلم واخرج غوامضه ، والتبقر هو التوسع في العلم اي بقر العلم بقرا .
وكما ورد عن جابر الأنصاري المتوفي سنة 78هـ: أنّ النبي (ص) قال له: يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يُقال له محمد؛ يبقر العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام .
إننا نناشد الأفرقاء السياسيين وضع حد للنزاعات الجانبية فيما بينهم وتقديم مصلحة البلاد والشعب على ما عداها، وندعوهم إلى التفاهم على الثوابت المصيرية في هذه الظروف الدقيقة وعلى أساس بناء الدولة والتعالي عن الشكليات والمصالح الشخصية الضيقة.
إن الدفاع عن أي فاسد واعتباره ممثلا لطائفته هو ظلم للشعب اللبناني كله لأن تأمين حاجات الناس لا تقوم إلا على محاربة الفساد والفاسدين والمفسدين.
إننا نشيد ونقدر موقف رئيس الجمهورية باعتباره الحافظ للدستور وأب الجميع على كل مواقفه التي تدعو وتؤكد على محاربة الفساد والمفسدين ونتمنى منه السير حتى النهاية في هذا الأمر ولا أحد فوق القانون العادل.
ونهنئ الأخوة المسيحيين ببدء الصوم، متمنين أن يصوم جميع اللبنانيين عن إثارة الفتن والخلافات.
وفي الشأن العربي نشيد بقرارات بعض البرلمانيين العرب الممثلين لشعوبهم الذي يؤكد أن مواقف الشعوب غير مواقف الحكام.
ونختم متنمين على الوفود الأجنبية التي تزور لبنان أن يكون في أولوياتها مصلحة لبنان وليس التفاوض عن الكيان الصهيوني على حقوق لبنان في ثروته النفطية وفي الحفاظ على حدوده ومساعدته لحل أزمة النازحين بدل المتاجرة بهم.
والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمدٍ وآله الطاهرين .