المهندسة فاطمة ع. عبد الجليل|
عندما ننتهي من مرحلتنا الثانوية ونظن أننا
قطعنا الشوط الأكبر من حياتنا العلميّة، نتفاجأ بأننا على وشك البدء -الآن- ، وكل ما مضى من سنين شاقّة من العِلْمِ المُسْتَتِب والأفكار المكرّرة والحشو الدراسي، هي عبارة عن مرحلة تفتيح ذهني لا أكثر، تحضيراً للمرحلة الأهم (برأيي) بالنسبة للطالب وهي المرحلة الجامعيّة، حسناً لن أبدأ برحلتي الهجومية من أول فقرتي اليوم، سأتركها للسياق كي تكون هذه الكلمات المتراصفة تحمل بين طياتها رسائل تطال أصحابها مباشرة.
ينشأ في داخل كلٍّ منا شخصيّة مهنية، تكون نتيجة طبيعة نشأتنا أو معارفنا المكتبسة خلال سنيِّ حياتنا الأولى، أو نظراً لطريقة عيشنا داخل محيطنا أو بسبب نمط معارفنا. قد تُميّزنا هذه الشخصية عن باقي بيئتنا، إخواننا، أصدقائنا وحتى أبائنا أو قد تجعلنا نسخة مشابهة عمّن ذُكِر بسبب إصرارهم على اتخاذنا النسخة الأصلية عنهم أو مورِداً مهماً لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم التي فشلوا في تحقيقها، (وطبعاً قد تنساق معهم إن لم تكن لديك تلك الآمال التي حلمتَ بها دائماً منذ الطفولة).
تأتي هذه الشخصيّة -التي قد تكون ملامحها أو مميزاتها غائبة عنك طويلاً وقد تتأخر باكتشافها- لتساعدك على اختيار توجهك الجامعي، وتصوِّب مسارك العملي فيما بعد وتطرح اسمك في الميدان المهني ليكون علامة فارقة وتحقِّق إنجازاً على الصعيد الشخصي أولاً من حيث الاكتساب والتطوّر، والمجتمعي ثانياً من حيث الإفادة العامة والإرشاد والتوجيه .. بالتأكيد قد مرّت على مسمعكم وشهدتم حكايا عديدة لطلاب أو متخرجين غيّروا اختصاصاتهم بعد سنتين أو أكثر من دراستهم، أو حتى بعد تخرجهم، ليكتشفوا أنهم ينتمون إلى قطاعات فكريّة/عمليّة مختلفة جداً عما كانوا يظنون، لا بأس بذلك ولكن ماذا إن وجدنا طريقنا منذ البداية وبدون هذا اللّف والدوران.
نعلم أننا في بلادٍ عربيّة لا تصوِّب مسارنا العملي منذ بداية دراستنا، ولا تُفَعِل المواهب الخفيّة، يغيب عنهم اختبار الميول والقدرات، ويصعب عليهم بذل جهد بسيط لمعرفة طموح الطالب و ما يسعى للوصول إليه إضافة إلى غيابهم عن توعيتهم لاكتشاف سوق العمل في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المتقلبة، فكيف ننتظر من نواة هذه الأمة الوقوف أمام تحديات هذا العالم المتغيّر وتطابق الشخصيات وتوافقها مع المهن المختارة، أو الوصول إلى القطاعات المرجوَّة أمام هذا المستقبل الغامض والمشوش حالياً.
لذا في الوقت الراهن، على الطلاب الوافدين إلى هذا المستقبل بالاعتماد على أنفسهم والسؤال كثيراً من خلال تكثيف أبحاثهم الفرديّة، واللجوء إلى الجمعيات والمؤسسات التي تسعى إلى بَلْوَرَة شخصيّة الطالب واكتشافها مسبقاً قبل الخوض في أهم مرحلة ترتبط بمستقبلهم البعيد.
حسناً، يأتي هنا دوري لأحدثكم عن اختصاصٍ خُضتُ خمس سنين من حياتي الجامعية (بعد نصف عام من الضياع التّخصصي في مجالٍ مغاير كلياً) لأستقر الآن في ذاك المستقبل -الذي كلمتكم سابقاً عنه- لأجد أن لا سوق عمل يدعم تَوَجهي المهني، لكن هذا لن يمنعني من أن أحدثكم عن غموض هذه المهنة إلى الآن وتقصير المعنيين في تصويرها ويظهر أهميتها.
الهندسة الداخليّة؛ كَثُرت المصطلحات الشائعة والزائفة التي تصف هذا الاختصاص، بدايةً بتسميته ثم بوصفه، وصولاً إلى تسخيف صعوبة دراسته، والتي بالفعل لا تَنمّ إلا عن جهل المجتمع بهذا المجال.
أولاً، لا يُعْنَى اختصاص “الهندسة الداخلية” فقط باختيار الألوان، الأثاث وبعض الاكسسوارات للمحيط، عِلماً أن هذه العناصر مهمّة في تنظيم العناصر الداخلية للمحيط لكنها الخطوة الأخيرة في عملية التصميم الداخلي (وهذا ما يميِّز المهندس الداخلي عن المصمم). ثانياً، لم تكن الهندسة الداخلية أو المعمارية تقتصر على بناءٍ يلبي الحاجات الوظيفية للإنسان فقط، بل بِجَعل هذا البناء قادراً على التعبير، تحريك المشاعر وخلق رابط بين الذاكرة والخيال.
يعتبر المفهوم المعماري (Concept) الخطوة الأولى والحجر الأساس لبناء وتنفيذ فكرة أي مشروع، والذي يعتبر من أصعب المهمات التي يسعى المهندس الداخلي/المعماري لدراسته أو تكوينه، وإقامة رابط معنوي مع أصحاب المشروع لتطبيقه على الأرض وتحويل أربع جدران، سقف وأرضيَّة إلى محيط يَتكلم بِلغةِ مستثمريه ولمسة مهندسيه. وهذا ما يميِّز هذا الاختصاص ويجعله يتداخل مع عدة مجالات ليصل إلى مبتغاه، وتتضح معالم فنه.
أذكر خلال سنواتي الأولى في اختصاصي، قمتُ بوضع منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يُحاكي مدى تنوع المعارف التي يجب أن يُلِّم بها المصمم، والمهن التي يجب أن تكون ضمن لائحة معرفته كي ينجح ويتميّز بهذا الاختصاص، وقد يكون هذا المنشور قد أٌخِذ بمنحى روح النكتة، لكن بالفعل مع تسلسل الحياة الجامعية واختلاف المشاريع التي تَمُر على المهندس، ستجد أنك بحاجة إلى الغوص دائماً كي تكون مُوِاكباً و بتطورٍ مستمر.
مهما أطلت الكلام، لن تستطيع بضع أسطر تقدير جهد هذا الاختصاص، ولن ينال حقه من خلال بضع تعريفات استجمعتها لاختصار مفهوم ليس مجرد عنوان مهنة بل “نمط حياة”..
آمل فقط أن لا تضيع جهود الطلاب الذين استثمروا طاقاتهم ولياليهم في دراسة “الهندسة الداخلية” و عملوا على نقلها إلى مستوى آخر، كما أتمنى أن يُقدَّر حق تقدير مهندسينا (أساتذتنا) الذين برعوا في إيصال الصورة الصحيحة في المكان السليم وساعدوا على تحرير أفكارنا وعقولنا من سطوَةِ التِّكرار والنمطيَّة إلى مستويات بعيدة جداً.
أمّا الأمنيَة الأخيرة،
بلدنا، لبناننا العزيز، كُنْ عَلى ثِقَة بأنك تتداعى بفقدانك المواهب الشابة، وستصدأ قريباً بتكرار ألوانٍ وأشكال أحادية المنشأ.. قدِّر مواهب مبدعيك وادعم أيقونات الفن الشابة، لعلك بهذه الخطوة تخطو أبعد مما تقف وتصل إلى أعلى من حافة القاع.