غوى قصير|
في الثالث عشر من شهر نيسان عام 1996 لم
أذكر ما حدث بالضبط لقد كنتُ في الرابعة من عمري آنذاك. اليوم وعندما قررت استحضار فلاش من الماضي البعيد لم تساعدني ذاكرتي كي أستجمع ذكريات هذا النّهار وما تداولته الصّحافة ووسائل الإعلام عن تلك الحادثة التي هزّت العالم بأكملهِ ما عدا أصحاب الجرائم التاريخيّة الذين اكتفوا بإصدار حكم الإعدام بحقّ الطفولة والإنسانيّة.
عندما كبرت قليلًا وبلغت من العمر عشر سنوات كنتُ أنا ورفاقي نثرثر في المقعد الخلفيّ بانتظار دخول المعلّمة إلى الصّف، أذكر يومها كيف دخلت معلّمتي وجذبت انتباهنا عندما قالت: “سأروي لكم اليوم قصّةً ليست ببعيدة حدثت في شهرنا هذا، شهر نيسان، شهر رائحة الزّهر الجنوبيّ الذي تلطّخ بحبر الدّم دون سابق إنذار”. جلسنا يومها بهدوءٍ غير مُعتاد، وضعت معلّمتي كرسيّها في وسط الصّف، تخيّلتها آنذاك وكأنّها مركز الكون. دون أن تُمسك بورقة أو كتاب كما جرت العادة، جلست مستقيمة على كرسيّها وشبكت كفيها في بعضهما البعض وبدأت بسرد قصّتها وكأنّها حفظتها عن ظهر قلب:
“عند السّاعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت من العام 1996 في الثالث عشر من شهر نيسان عبرت سيّارة إسعاف من نوع “ڤولڤو” بيضاء اللون تابعة لبلدة “المنصوري” على طريق الحنية جنوب لبنان كانت تقلّ أناس من البلدة وهي في طريقها وبعد أن ابتعدت قليلًا عن حاجز لقوات الطوارئ الدوليّة قُصفت السيّارة بصاروخٍ موجّه من مروحية إسرائيلية، فانحرفت السيّارة عن مسارها إثر الصّاروخ الذي أصابها مباشرة واصطدمت بحائط إحدى المنازل المجاور لطريق إحدى البساتين…” ثمّ صمتت قليلًا، كانت تبدو عليها الغصّة! ذُهلنا يومها، وقبل أن تُكمل بقيّة القصّة التي تبدو مروّعة دون أن تذكر لنا تفاصيلها، لم يمهلوها رفاقي بضع دقائق حتّى تستعيد قوّتها لتكمل لنا بقيّة الحكاية حتّى انهالوا عليها بالأسئلةِ والتفاصيل لفضولٍ ما كان يشدّنا جميعًا، أمّا أنا فبقيت صامتة أتأمّل تقاطيع وجهها التي بدت لي ذابلة، وبعد أن علا صوت رفاقي وهم يطالبون ببقية القصّة اكتفت بقول: “وقد استشهد 6 أشخاص من الذين كانوا داخل السيّارة”، ثمّ أعادت كرسيّها إلى مكانه معلنة بدء الدّرس.
واليوم استعدت وحدي تفاصيل تلك المجزرة التي ارتكبها العدوّ الإسرائيلي في الحرب التي أسموها “عناقيد الغضب” حسب قولهم، ولفضولٍ منّي رحتُ أبحث عن نصف الحقيقة المتبقيّة من القصّة التي لم تجرؤ يومها معلّمتي باستكمالها بكلّ تفاصيلها مراعاةً لبراءة طفولتنا.
وجدت بقيّة القصّة وعثرت على أجوبة طفلة ما زالت تبحث بداخلي عن حقيقة ما حدث يومها من تفاصيل رغم فظاعة ما شاهدت وعرفت! وبالصدفة وأنا في طريقي للبحث عن أجوبتي شاهدت مقابلة تلفزيونيّة للصحفيّة اللبنانيّة نجلا أبو جهجه التي تواجدت هناك يوم المجزرة الأليمة ووثّقت الأحداث من البداية حتّى النهاية.
تقول نجلا أبو جهجه التي كانت تعمل يومها مراسلة حربيّة لدى وكالة رويترز: “لقد رأيت مجازر من قبل، ولكن مجزرة سيارة إسعاف المنصوري هي الأبشع” وتكمل تفاصيل القصة: “كعادتي في كل مرة يحصل فيها عدوان صهيوني على الجنوب، أقوم بجولة ميدانية على القطاع الأوسط، لأنقل مشاهد الدمار والقتل الذي تمارسه “اسرائيل” بحق الجنوبيين إلى الرأي العام الدولي. بعد جولة لي على عدد من قرى القطاع، وصلت قرابة الساعة الثانية والربع ظهراً يوم 13 نيسان الى طريق المنصوري – القليلة، حيث قررت أن ألتقط صورًا لحاجز قوات الطوارىء الدولية وهو خال من العناصر بسبب القصف الاسرائيلي العنيف، وما أن فرغت من ذلك حتى سمعت صوت سيارة اسعاف، فجهزت نفسي لالتقاط الصور ظناً مني أنها تنقل جرحى. مرت سيارة الاسعاف بالقرب منا، فشاهدت بداخلها على عكس ما توقعت، عائلة نازحة معظمها من الاطفال، وقد وضع على سطحها ضوء أحمر وشارة تدل على أنها سيارة اسعاف.
في هذه الاثناء كان السائق قد أشار لي أن أمّر قبله، لكنني فكّرت بالتقاط بعض الصور الأخرى، وفجأة سمعت صوت مروحيات اسرائيلية تقترب من المكان. اختبأت جانب جدار لالتقاط الصور لها للحظات قليلة، واذا بدويّ انفجار يسمع في المكان، فارتفعت سُحب الدخان، ثم سقط صاروخ آخر. بدأت بالتقاط الصور وسرعان ما انقشعت الرؤية. نظرت الى الطريق، لم أشاهد شيئاً، قلت الحمدلله لم يصب أحد بأذى.
وعملت على تهدئة روعي من هول الغارة التي لم يكن بعد قد انجلت بالكامل صورة الموقف الذي خلفته. ولم يخطر ببالي أن تكون سيارة الاسعاف قد أصيبت. ثم ظهرت فجأة سيارة مرسيدس بيضاء. وبعد لحظات ظهر رجل يحمل طفلتين تسيل الدماء من وجوههما التي اختلطت بغبار الارض، وهو يصرخ ويردد “لقد قتلوا أولادي”. ثم ظهر رجل آخر يحمل طفلة وهو يهرول أيضاً مذعوراً. حاولت أن ألتقط صوراً لهما. وما ان اقتربا حتى اتضح لي انهما جريحان وأن الطفل الذي حمله أحدهما لا يتجاوز الشهر الواحد من عمره، قد أصيب بجرح بالغ في رأسه، فتهشم جزء منه، فيما الطفل الاخر كان في السابعة من عمره تقريباً وكان الدم يسيل بغزارة من وجهه. وكان أحد الرجلين يصرخ ويقول بصوت مخيف ردد صداه أرجاء المكان: “اربعة أولاد يا عالم”. بينما الرجل الآخر كان يضرب رأسه، فيما الفتاة التي برفقته كانت تقول: “أختي انفجر رأسها”.
حاولت الدخول الى البستان حيث كان ينبعث دخان خفيف، فسلكت طريقاً جانبياً، وهناك وجدت المفاجأة! سيارة الاسعاف عينها التي مرت قبل قليل، اصطدمت بالحائط من جراء اصابتها بصاروخ الطوافة الصهيونية، وكان المشهد مرعباً، كان بداخلها امرأتان، واحدة في الخمسين والأخرى في الثلاثين من العمر ومعهما ثلاثة اطفال جميعهم كانوا ملطّخين بالدماء. حاولت فتح الباب لإنقاذ أحد ما… لم أستطع. طلبت من حاجز قوات الطوارىء أن يفعل شيئاً، فلم يتجاوبوا”.
ستّة شهداء قضوا يومها، ولكن صورة “حنين” الطفلة التي كانت تُلقي رأسها على نافذة السيّارة وتحاول أن تفتح عينيها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل أن تفارق الحياة خُيّل لي بأنّها كانت تبحث عن حُلمٍ أخير ليرافقها إلى حيث رقدت لا يشبه طفولتها التي هشّمتها الهمجيّة والوحشيّة.
ليت أدوار حرف الياء والسين تتبدّل فيتحوّل شهر نيسان من العام 1996 إلى نسيان.