الرئيسية / اخبار رئيسية / قانا جنتنا الاخيرة

قانا جنتنا الاخيرة

غوى قصير |

قَانا الجليل، فتاةٌ جَنوبيّةٌ من وطن الحرب زُفَّت عروسًا في الثامن عشر من شهر نيسان من العام ١٩٩٦. كِنيتها نُسِبت إليها عن أبيها المسيح الذي مرّ يومًا من هُناك فصلّى في مغارتهِ ومضى. عروسٌ خضَّبت كفّها بالدّمِ لا بالحنّاءِ يوم رثَت حبيبها في الليلة الأخيرة قبل يومٍ من زَفافها وانتظرتهُ هُناك علّه يأتي مع الغيم فيظهر من بين النّاجين فتلوّح لهُ بمنديلها الأبيض فيُقبل إليها. وأمام القاعة الزُجاجيّة وقفت تعدّ جثث أطفالها الذين فقدتهم قبل عقد قِرانها، فرمَت بفُستانها الأبيض الذي مزّقته شظايا الإحتلال واستبدلتهُ برداءٍ أسودٍ وراحت تركض بين النيران لتزيل دخان الموت لتُنقذ أصغر أطفالها.
الأمّ في فطرتها تناغي طفلها حتّى إذا كبُر وتلاحق ظلّه حتّى لا يتعثّر، ألم تتعثّري يا قانا يوم حملتِ جميع أطفالكِ إلى جنّتهم الأخيرة؟
ما نعرفهُ عن القبور أنّها تتشابه في ألوانها وأشكالها وصفاتها، هذا الهيكل الحجريّ الرماديّ الذي يحفرون على صفحاته الأولى أسماءنا التي حملناها منذ الصّرخة الأولى، إلاّ قبور قانا كانت مختلفة. فالأمّ الجليلة هذه جمعت أولادها المئة والستّة في بيتِ قلبها وكتبت على دار كلّ منهم اسمه وتاريخ ميلاده واستشهاده، هُناك أطعمتهم من فتات خبزٍ كان قد تُركَ للعصافير وأشربتهم من مجرى دمعها المتدفّق، هُناك في قعْرِ قلبها أسكنتهم، حيثُ لا حرب ولا موت ولا خوف ولا جوع، هُناك حيث الكون استقر وفتح الله بابه الحنون على مصراعيه، وهُناك كبُر الطفل الذي غفا بلا حلم فأصبح طبيبًا يعاين جرج أمّه المفتوح منذ ثلاثة وعشرين عامًا. ويحدث أن تطرق باب بيتهم متى ما أردت دون استئذان أو موعد مُسبق، فآداب الزيارة هُناك لا تطلّب سوى دمعة ووردة ولا تنسى أن تلقي تحيّة المقام على أمهم الجليلة، قانا.
يا أُمًّا هوَت وبكت في مغارة أبيها يوم سقطت الصورة من عدسة الماضي، فأشعلتِ شمعة في ظلام جُرحكِ الذي كبُر فيكِ وهو من عمر رضيعكِ الأصغر، فأقبَلت “مريم” من مهدِ أبيكِ تَحمل إليكِ تمر صبرها وتبشّركِ بقولِ ربّها: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} وتمسَح فوق جبينك المُتعب لتكملَ قوله: {ألاًّ تَحْزَنِي}.

شاهد أيضاً

غزة ما بعد العصر الإسرائيلي: قيامةٌ لا رجعة منها

يمثّل تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي محطّة مضيئة في الصراع المستمرّ مع العدو، كونه …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم