غوى قصير |
ربّما تخوننا ذاكرتنا أحيانًا لحفظ تاريخ ما أو لتذكّر صور قد التقطناها بكاميرا الماضي.
ذاكرةُ الوطن فتاةٌ لا تكبر، شقيّة يافعة، تجول بين حقول التّبغ التي رُويَت يومًا بدموع الأمّهات وأحياء قُرانا التي داستها أقدام الغُزاة.
وطني كان يومّا ما أّنثى مُعتقلة، عذّبتها يد الجلاّد فتأوّهت بصمتٍ وبكاها الحبيب بحرقةٍ، فأمسكَ ببندقيتهُ التي أعتاد على حملها عند كل لقاء فتبسّمت لهُ السواقي، وسألتهُ أتحبّني بهذا القدر؟ فاقترب منها وهمس في أُذن الوادي: لا بل أكثر!
ذاك الحبيب لم يُقبّل جبينها يومًا، كان يكتفي بالسجودِ بين ذراعيها كلّ ليلة، ولكنّ ليلهُ لم يعرف نهاية.
كبُرت الذكرى ويدُ الحبيب التي لوّحت بالبندقة استراحت للأبد، والعُرس الذي شهدناه جميعنا يوم 25 من شهر أيار عام 2000 كان هو عريسه. يا عريسًا ما كان أشجع روحهُ.
أتذكر يا ولدي يوم ذهبت ورفضت أن تودّعني وأعدت ترتيب الوشاح الذي علا فوق أكتافي، لمستهُ كي يستطيب قلبي وقلبي من يومها يرتديك يا ولدي.
لقد علت الزغاريد بعد رحيلك بيومين وأنا منتظرة أمام باب الشّوق فرأيتهم يرفعون بندقيتك ناحية السماء وأطلقوا من فوّهتها طلقات النّصر فعرفت أنّك ذهبت ولن تعود وعندما ظهر لي اسمك الذي حفرته يومًا على زندها وسألتك عن فعلك هذا قُلت لي: علّهم يا أمّي يذكُروني يوم العرس الأكبر، فلوّحت بوشاحي الذي بقيت يداكَ تتلمسَه وفرحتُ بدمكَ الذي رُفع مع الرايات.
والمُعتقل الذي حاربت لأجله وذرفت الدمع وأنت تنظُره من أعلى التلِّ على صديقك المقرّب الذي أُسر بذنب شهامته ومروءته رأيتهُ يخرجُ منهُ مع أول المُحرّرين. ليتك كُنت هُنا وشهدت دمعه حينما سألني عنك فلم أُجب واكتفيتُ بزفرةٍ فبكى وأخرج من جيبِ بنطاله المثقوب وصيّتك وقبّلها ثمّ أخد رأسي بين يديه وقال: هذه وصية الشّهم، أوصاني بأن أقبّل جبينك الأبيض وأمسح دمعك إن هو تأخّر.
لن أنسى لحظة الصُراخ التي علت في زنازين الظُلم وكيف خرجت يدُ النّصر لتُعانق أيادي الأحبّة قبل أن تُفتح أبواب الحُريّة بلحظات.
الحُريّةُ لا تُمنح، الحريّةُ قرار.
تسعة عشر عامًا مرّت وكُلّما أُعيد بثّ مشاهد التحرير الأولى استدركت كم كان وجه الله واضحًا لا بل حاضرًا آنذاك.