كتبت جريدة “الأخبار” أن الحدث لم يعُد في وسط بيروت وحسب، بل في كل ساحات لبنان. من صيدا الى صور والنبطية والبقاع. ومن جونية الى جبيل وصولاً إلى طرابلس وعكار. مشهد شكّل واحدةً من أكثر المفاجآت المباغِتة للسلطة والشعب معاً. وباتَ هذا الأخير هو الرقم الصعب، وبدأت الأحزاب والتيارات السياسية من دون استثناء تبحث عن حلول لإرضائه. فالحشود البشرية التي ضاقت بها الطرقات في كل المناطِق، قفزت فوق الإجراءات التي اعتادت الحكومة اتخاذها كمُخدر. أصبحَ بُركان الاعتراض في مكان آخر، لا يُمكن أن تُخمِد ناره إلا إجراءات استثنائية، تحقّق اختراقاً حاسماً في موضوع الإصلاح ووقف الهدر والفساد.
وفي اليوم الرابع، احتدمت الأحداث السياسية والشعبية، تاركةً عشرات علامات الاستفهام حول مصير لبنان الذي لن يكون واقعه كما كان قبلَ 17 تشرين الأول. ولئِن كانت لغة الأعداد هنا غير مهمة، فإن الأكيد أن الهبّة التشرينية لا تُشبه أي انتفاضة أخرى في تاريخ لبنان، كونها حققت ضربة معنوية كبيرة للنُخب الحاكمة، إذ طالت رموزاً كانت لا تُمس وكسرت هيبة لطالما أحاطت هذه النخب نفسها بها. هذا التحول النوعي في الشارع، وإن كانَت الطبقة الحاكمة لم تستوعبه حتى ليل أمس، إلا أنه أجبرها على اقتراح إجراءات (جرى تسريب بعضها) لم يكن الجزء الأكبر من مكونات مجلس الوزراء يرضى بها سابقاً، ويدلل مرة أخرى على الخداع الذي كانت تمارسه هذه السلطة بالادعاء أن الخروج من الأزمة لا يُمكن أن يحدث إلا بتدابير إصلاحية موجعة للطبقات الفقيرة والمتوسطة. وعلى العكس من كل ما جرى تسويقه منذ «سيدر»، تعد السلطة بإنجاز موازنة من دون عجز (!)، بلا حاجة إلى فرض ضرائب جديدة على ذوي الدخل المحدود والمتوسط، ومن دون المس بحقوق العاملين في القطاع العام، بل عبر مضاعفة الضريبة على أرباح المصارف، وتحميلها مع مصرف لبنان كلفة الدين العام في موازنة 2020. لكن ما تصفه مكوّنات مجلس الوزراء «بالإنجاز»، تدور شكوك جدية حول إرضائه الشارع المنتفض، المطالب بتحقيق «كل شيءّ» تقريباً، لأن «لا شيء» تقريباً «ماشي حالو». كما أن بنود الورقة تبدو «إبرة مورفين» لعام واحد، من دون ضمان ما سيأتي لاحقاً.
وفيما كانت الضغوطات تشتدّ على القوى المشاركة في الحكومة قبلَ 24 ساعة من انتهاء المدة التي أعطاها الرئيس سعد الحريري لشركائه للقيام بخطوة جدية والا فـ«الكلام الآخر»، حصلت تطورات سياسية مساء، قالت مصادر بارزة إنها أعادت «بث الروح» في رئيس الحكومة، وجعلته يتمهّل في حسم بعض نقاط «الورقة الإصلاحية». الموقف الذي صدر عن وزارة الخارجية الأميركية الذي «دعم الحراك السلمي»، واعتبره حافزاً للحكومة لتحقيق الإصلاحات، جعل الحريري يشعر بانتعاش إضافي. وأكدت المصادر أن «الحريري صامِدٌ في وجه الاستقالة التي لا تحبّذها عواصم غربية خشية دخول لبنان في المجهول».
وأضافت أنه يفترض أن تنتهي اليوم مساءً المهلة التي أعطاها الحريري، حيث ستكون الحكومة أمام الاختبار الحقيقي. فإما التنازل أو الذهاب الى خيارات انتحارية، ما يعزز الخشية من محاولات قد تعمد اليها السلطة للدفع نحو تخريب الحراك، ولا سيما أنها تستمر في حالة الإنكار ورفض تقبّل الواقع الجديد، تضاف اليهما حقيقة أن القاسم المشترك بين السلطة والحراك هو غياب الرأي والإدارة والخطة، إذ لا تزال الشعارات المرفوعة في الشارع فضفاضة ولا وجود لبنود مطلبية محددة. الثابت حتى الآن أن الجيش لا يزال يرفض الاصطدام بالمتظاهرين، إذ خلال اليومين الماضيين جرى البحث في مخارج ووضع خطة أمنية تمنع الفوضى وقطع الطرقات، لكن قيادة المؤسسة العسكرية كانت واضحة في ردّها على القوى السياسية بأنها «لن تستخدم القوة مع الشارع». ويبقى السؤال الأساسي: هل يستمر الحراك «من دون ضربة كف» أم ستشهد الأيام المقبلة إدخال «طابور خامس» (من بعض القوى الممثلة في الحكومة) لتبرير القمع، أو اللجوء الى خيار «شارع مقابل شارع» فيما لو فشلت السلطة اليوم في الاختبار؟