بعد شهر واحد من انتفاضة 17 تشرين الثاني الماضي، أصدرت جمعية المصارف اللبنانية «بياناً صحافياً» تضمن إعلاناً هو أقرب ما يكون إلى المرسوم، قضى بإرساء قواعد جديدة ترعى التعاملات النقدية في لبنان. يومها، وضعت الجمعية حدوداً وسقوفاً لتعاملات اللبنانيين المالية سواء من حيث القيمة أو الغرض منها.
استعملت المصارف البيان، مضافاً إليه بعض التفسيرات الخاطئة للقانون، لفرض قيود على التحويلات والسحوبات، لتتوصل إلى فرض نسخة عجيبة ومجحفة من الـ«كابيتال كونترول»، ما أدى إلى تشوّهات في سوق النقد وفي الحركة الاقتصادية ككل.
تقدم بعض المتضررين بدعاوى قضائية أمام القضاء المستعجل صدرت على أساسها قرارات جريئة بإلزام المصارف تحويل المبالغ المطالب بتحويلها إلى المقصد المطلوب، كان أولها القرار الصادر عن القاضية كارلا شواح بتاريخ 3/1/2020، وتم بموجبه التصدي للذرائع المساقة تبريراً للتمنع عن التحويل. فقد أدلى المصرف في تلك القضية بعدد من الحجج، منها أن الظروف الحالية تشكل قوة قاهرة تمنعه من التحويل، وأنه يستند في تمنعه إلى بيان جمعية المصارف، وأنه يعرض التسديد بموجب شيك مصرفي.
اعتبرت القاضية أن الظروف التي تشهدها البلاد لا تشكل قوة قاهرة بالمعنى القانوني، وأنّ البيان المتذرع به صادر عن جمعية لا صلاحية لها بتعديل أو إلغاء أو تقييد العمليات المصرفية، وأن الدفع بموجب شيك مصرفي لا يشكل وسيلة إبراء.
كرّت سبحة القرارات المماثلة من حيث النتيجة، نذكر منها قرار القاضي أحمد مزهر في النبطية والقاضية ريتا حرّو في زحلة والقاضية رولا شمعون في عاليه.
لم تتعرض النزاعات للممارسات الأخرى للمصارف، ومنها الامتناع عن دفع أموال المودعين بالعملة الأجنبية وعرض دفعها بالليرة بسعر الصرف المحدد من مصرف لبنان. من هنا نتناول الذرائع المعتمدة من المصارف تبريراً لهذه الممارسات ومدى قانونيتها.
تستند المصارف في اتخاذها تلك الإجراءات، بالدرجة الأولى، إلى نص المادة 307 من قانون التجارة لتأكيد التعريف القانوني لتعاقدها مع المودع، باعتبار أن هذا العقد هو عقد قرض لا عقد وديعة. فالمادة 307 تجارة تنص على الآتي: «ان المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له، ويجب عليه أن يردّه بقيمة تعادله دفعة واحدة أو عدة دفعات، عند أول طلب من المودع او بحسب شروط المهل او الاعلان المسبق المعينة في العقد».
لا خلاف على أن القانون ينظر إلى الوديعة المصرفية باعتبارها تخضع لأحكام القرض. واجتهاد المحاكم اللبنانية، مستقر على تطبيق النصوص القانونية واعتبار أن «الوديعة المصرفية هي وديعة شاذة dépôt irrégulier أو عارية استعمال تخضع لأحكام القرض، وذلك سنداً لأحكام المادة 691 من قانون الموجبات والعقود. وسنداً لأحكام المادة 759 والمادة 761 من قانون الموجبات والعقود، فان الاموال المقترضة تصبح ملكاً للمقرض الذي يبقى ملزماً بإعادة ما يماثل الشيء المقرض نوعاً وصفة، ما يعني انه في الوديعة المصرفية يصبح المال موضوع الوديعة ملكاً للمصرف الذي يلتزم برده عند الاستحقاق».(1)
انطلاقاً من التعريف، أعلاه تعتبر المصارف أن رد القرض المصرفي يخضع لأحكام المادة 301 من قانون الموجبات والعقود التي تنص على أنه «عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل اجبارياً بعملة الورق، يظل المتعاقدون احراراً في اشتراط الايفاء نقودا معدنية معينة او عملة اجنبية».
وتجدر الإشارة هنا الى أن تفسير عبارة «الزمن العادي» يستوجب النظر الى هذه المادة مع الأخذ في الاعتبار عامل الزمن الذي صدر فيه القانون. فقانون الموجبات والعقود صدر بتاريخ 9/3/1932، وفي وقت لم يكن فيه التداول بغير العملة الورقية محظراً. فالعملة الورقية كانت في الأصل تمثل ديوناً لحاملها على مؤسسة إصدار النقد حيث كانت تلك المؤسسات تتعهد لحاملي العملة الورقية الصادرة عنها بدفع ما يقابلها ذهباً، وكان هذا التعهد هو ما يعطي العملة الورقية قيمتها وقوتها الشرائية. في ذلك الزمن كان التداول الإلزامي بالعملة الورقية إجراء استثنائياً تلجأ إليه الدول في الحروب والأزمات.
من هنا، يمكن فهم عبارة «حين لا يكون التعامل اجباريا بعملة الورق». فالتعامل الاجباري في عملة الورق كان إجراء استثنائياً ما تلبث الدول أن ترجع عنه بعد انقضاء الأزمة التي فرضته.
وبصدور قانون النقد والتسليف بتاريخ 1/8/1963، لم يعد فرض التعامل بالليرة اللبنانية إجراءً استثنائياً بل أصبح قاعدة دائمة، وبالتالي لم يعد لعبارة «الزمن العادي» الواردة في نص المادة 301 موجبات وعقود المفهوم عينه، بعدما أصبح فرض التعامل بالليرة هو السائد في الزمن العادي.(2)
من هنا يمكن فهم أن الاختلاف بين النصين ناجم عن أن قانون الموجبات والعقود صدر في ظل عدم وجود تشريع يوجب التداول بالعملة الوطنية. وبما أن المادة 7 من قانون النقد والتسليف تنص على أن «للأوراق النقدية التي تساوي قيمتها الخمسماية ليرة وما فوق قوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية»، والمادة 192 من القانون عينه تعاقب على الامتناع عن قبول العملة اللبنانية، فإن المصارف تعتبر أن المدين بشكل عام لا يحق له رفض استيفاء دينه بالليرة اللبنانية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن النص لا يمنع التعامل بعملة أجنبية بالمطلق، إذ أن الحظر يتعلق فقط برفض قبول العملة اللبنانية كأداة للإبراء.
ارتكزت المصارف إلى النصوص المشار إليها أعلاه للقول إنّ إيفاءها إيداعات المودعين عبر تسديد ما يعادل قيمة هذه الايداعات بالليرة اللبنانية، هو إيفاء قانوني. وأن لها الحق بالتمسك بهذه الطريقة للإيفاء. غير أن ما تضيفه المصارف في هذا الصدد، وما يعنينا في هذا البحث، هو طريقتها في تسعير قيمة الليرة اللبنانية بالنسبة للدولار الأميركي. إذ أنها تلزم المودعين (عبر سد الباب أمام أي خيار آخر) باستيفاء قيمة إيداعاتهم بالدولار بموجب دفعات بالليرة اللبنانية بما يوازي السعر الصادر عن مصرف لبنان. وقد اتخذت المصارف هذا الإجراء بعدما أطلقت على هذا السعر تسمية «السعر الرسمي للدولار».
من هنا، فإن السؤال المفصلي هو: هل المصرف المركزي هو الجهة المخولة بوضع «سعر رسمي» للدولار؟ وأكثر من ذلك، هل هناك سعر رسمي للعملات الأجنبية في لبنان؟
الجواب عن السؤالين هو بالنفي. فقيمة الليرة اللبنانية بالنسبة للذهب وبالنسبة للعملات الأجنبية، وتالياً قيمة الدولار الأميركي بالنسبة للعملة اللبنانية، يحدد بقانون يصدر عن مجلس النواب، أو في حالات معينة بموجب تفويض من مجلس النواب لمجلس الوزراء بإصدار قانون بهذا الصدد، الأمر الذي حصل في العام 1973 بإصدار القانون المنشور بالمرسوم 6105 والذي أعطى الحكومة (أو وزير المال بتفويض من الحكومة) ضمن مدة ستة أشهر، صلاحية لتحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة، بعد استشارة مصرف لبنان، وذلك ريثما تحدد قيمة الليرة بالذهب ويعاد على أساسه تقويم موجودات المصرف من ذهب وعملات أجنبية. لكن مدة الستة أشهر انقضت من دون ممارسة الحكومة هذه الصلاحية، ولم تحدد سعراً انتقالياً قانونياً جديداً لليرة.
وقد جاءت المادة 2 من قانون النقد والتسليف صريحةً لجهة حصرها المرجع المخول وضع سعر لليرة. حيث أوردت أنه «يحدد القانون قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص».
فالمادة واضحة لجهة أن قيمة الليرة تُحدد بموجب قانون. وهذا ما أكدته استشارة صادرة عن هيئة التشريع والاستشارات تحت الرقم 881/1985 تاريخ 9/10/1985، والتي أوردت ما يلي:
«وتجدر الاشارة هنا إلى ان تحديد سعر قانوني جديد لليرة يستوجب تدخل المشترع كما نصت المواد 2 و229 من قانون النقد والمادة الاولى من القانون المنشور بالمرسوم 6105 ذاته.
… إذ أن تحديد سعر الليرة يدخل في النطاق التشريعي وليس في دائرة التنظيم».
من هنا، وفي ظل عدم صدور قانون يحدد سعر الصرف، فإن سعر الصرف لليرة اللبنانية بمقابل العملات الأجنبية يحدده سوق العرض والطلب لا المصرف المركزي.
«… بقيت الليرة اللبنانية بدون سعر قانوني، لا نهائي ولا انتقالي، ولا يحدد سعرها اليوم سوى القوة الشرائية التي يحكمها العرض والطلب».(3)
من هنا، فإن الإجراءات المصرفية المتمثلة باختلاق قاعدة «السعر القانوني لليرة اللبنانية» وإناطة التسعير بمصرف لبنان، وخلط ذلك بالمبدأ القانوني الذي ينص على إلزامية التعامل بالليرة بهدف دفع إيداعات عملاء المصارف بسعر يقل بنسب تفوق الثلاثين بالمئة، هي إجراءات لا ترتكز إلى أسس قانونية سليمة. وانطلاقاً من عدم قانونية هذا الإجراء، فإن نتائجه والأضرار الناجمة عنه لا بد أن تستدعي إعمال الفقرة الأولى من المادة 122 التي تنص على أن «كل عمل من احد الناس ينجم عنه ضرر غير مشروع بمصلحة الغير يجبر فاعله اذا كان مميزا، على التعويض».
*محام
مراجع:
1 – قرار محكمة التمييز المدنية الغرفة الرابعة رقم 52 تاريخ 6/3/2006 منشور في العدل سنة 2009 العدد 4 / الاجتهاد.
2 – بهذا المعنى دراسة للأستاذ نديم رعد بعنوان «انخفاض النقد ومصير الالتزام النقدي في القانون اللبناني»، منشورة في مجلة «العدل»، 1992، عدد 1.
3 – استشارة هيئة التشريع والاستشارات الآنفة الذكر.
المصدر: الأخبار