محمد وهبة-الاخبار
ثمة جريمة ترتكب في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عنوانها ربط التقديمات بالاشتراكات. فمنذ أسبوعين، قرّر رئيس مصلحة المحاسبة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أحمد بوصالح، بتغطية من الإدارة العامة في الصندوق، إبلاغ المحاسبين في مراكز الضمان، كونهم مرؤوسين منه، التوقف عن تسديد الفواتير للأجراء العاملين لدى شركات لم تسدّد الاشتراكات المترتّبة عليها عن عام 2018. مستخدم صغير في الصندوق بات يتحكّم بمصير تقديمات تخصّ ثلثَي اللبنانيين ويحدّد الرهائن التي على الضمان أخذها لابتزاز أصحاب العمل ودفعهم لتسديد الاشتراكات
خلال الأسبوعين الماضيين، فوجئ المضمونون بأن عدداً من رؤساء مراكز الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يرفضون تسديد الفواتير المستحقّة لهم مقابل الأعمال الطبيّة المصرّح عنها. وبوقاحة، أُبلغ المضمونون بأن السبب يعود إلى كون الشركات التي يعملون فيها لم تسدّد الاشتراكات المتوجبة للصندوق عن عام 2018. هذا القرار ظهر في اجتماع للمحاسبين في مراكز الضمان دعا إليه رئيس مصلحة المحاسبة في الصندوق أحمد بوصالح. أبلغهم بوضوح أن الضمان يعاني شحّاً في التدفقات المالية، وأنه يجب القيام بنوع من «الكابيتال كونترول» على عمليات الدفع من خلال الامتناع عن تسديد الفواتير المستحقة للمضمونين إلا إذا أبرزوا ما يثبت تسديد الاشتراكات المترتبة عليهم.
عندما تبلّغ رؤساء المراكز في الضمان القرار الشفهي لرئيس مصلحة المحاسبة، انقسموا: قسم يرفض تطبيق القرار من دون تعليمات خطيّة من المدير العام للضمان محمد كركي تلزمهم بهذا الأمر؛ وقسم رضخ للقرار وباشر تنفيذه مثل رؤساء مكاتب طريق المطار وشحيم وسواها.
قرار تعسّفي كهذا، اثار الشكوك بأن يكون عفوياً أو إفرادياً صادر عن بوصالح وحده، وخصوصاً أنه قبل فترة كانت هناك محاولة من المدير المالي في الصندوق شوقي بونصيف (معيّن خلافاً للأصول) تهدف إلى إلزام أجراء المؤسسات العامة بإثبات دفع الاشتراكات عنهم كشرط لحصولهم على تعويضات نهاية الخدمة، إلا أنها سرعان ما سقطت «لأنها جريمة» بحسب رئيس اللجنة الفنية سمير عون.
أياً تكن الجهة التي تغطّي قرار بوصالح الشفهي، سواء في الإدارة العليا أو في غيرها، فهو يعدّ جريمة موصوفة، كونه لا يستند إلى أي نصّ قانوني أو نظامي يفرض ربط الاشتراكات بالتقديمات. فمن المثير للاستغراب أن تكون هناك قدرة لدى مستخدم في الفئة الرابعة معيّن بالإنابة في الفئة الثالثة في مركز رئيس مصلحة، مهما كانت صلاحياته المالية واسعة ونفوذه أوسع، اتخاذ قرار «ميليشيوي» يمسّ ثلث اللبنانيين. هو وحده بات يتحكّم بمصير طبابتهم وتعويضات نهاية خدمتهم. بحسب مشروع موازنة 2019 في الضمان، فإن عدد الأجراء المنتسبين إلى الضمان يبلغ 465954 أجيراً يستفيد على عاتقهم 174489 زوجة/ زوج، 402117 ابناً / ابنة، 101919 والداً/ والدة، أي أن مجموع الأجراء ومن هم على عاتقهم يبلغ 1144479 فرداً (هذا الإحصاء لغاية 17/7/2018، أي أن الأعداد تغيّرت قليلاً بحسب حركة الاستخدام والترك).
في الواقع، إن خطوة بوصالح تضرب فلسفة الضمان في أساسها والقائمة على حماية حقوق الأجراء من تعسّف أصحاب العمل، لا اتخاذ تدابير تعسّفية بحقّ الأجراء ورهنهم لابتزاز أصحاب العمل. فكرة إنشاء مؤسسات الضمان الاجتماعي، في لبنان والخارج، أن تكون إلى جانب حقوق الأجراء التي يمكن أن يسطو عليها أصحاب العمل. الصندوق في الحالة اللبنانية، يمثّل الضمانة لهؤلاء الأجراء من أي ظلم يلحق بهم من أصحاب العمل. فمن الثابت أن صاحب العمل يقتطع من رواتب الأجراء حصّتهم من الاشتراكات لحساب الضمان، وعليه أن يدفع حصّته هو أيضاً، فإذا امتنع صاحب العمل عن تسديد الاشتراكات، يضمن الصندوق حصول الأجير على تقديماته، وأن يحصّل الاشتراكات من صاحب العمل. بمعنى آخر، تقاعس صاحب العمل لا يلغي استفادة صاحب الحق (المضمون ومن هم على عاتقه)، بل يكشف عن تقصير إدارة الضمان في جباية الاشتراكات من أصحاب العمل. لا يمكن منع التقديمات عن الأجراء، بل على الصندوق ملاحقة المتقاعسين عن تسديدها وبذل جهد للحصول عليها، ولا ينصّ القانون أو العرف على أن يأخذ الصندوق رهائن من الاجراء لإجبار أصحاب العمل على تسديد الاشتراكات. هل يتحمّل بوصالح أو بوناصيف أو أي مدير في الضمان مسؤولية التوقف عن سداد الفواتير المستحقة؟ ألا يعرّضهم هذا الأمر للملاحقة القانونية؟
عملياً، يحصل هذا الأمر في عز الأزمة المالية ــــ الاقتصادية ــــ المصرفية الراهنة، أي أن التقديمات تُمنع عن الأجير رغم أنه قد يكون بأمسّ الحاجة إليها، وقد تشكّل المبالغ التي يحصل عليها الأجراء مقابل الفواتير المقدّمة من المضمون ملاذاً أخيراً لحمايتهم من الجوع ومن تآكل رواتبهم بفعل ارتفاع سعر صرف الليرة في السوق الموازية وتضخّم أسعار السلع المستوردة بدولارات الصرافين.
على الضمان أن يحمي حقوق الأجراء من تعسّف أصحاب العمل لا أن يتعسّف هو تجاههم
يجزم عضو مجلس الإدارة رفيق سلامة أن ربط التقديمات بالاشتراكات «مخالف للقانون»، وهو قرار «لم يعدّه المدير العام للضمان محمد كركي ولم يرفعه إلى مجلس الإدارة لدرسه واتخاذ ما يلزم بشأنه». ويشير إلى أن هذا التدبير هو عبارة عن «كابيتال كونترول» مماثل للذي تمارسه المصارف بشكل استنسابي وغير شرعي، «فالمشكلة في الضمان هي في ضعف الإيرادات المحصّلة، لكن لا يمكن معالجتها عبر مخالفة القانون ولا بتدابير جزئية، فالظروف الاستثنائية تستوجب حلولاً استثنائية تتلاءم مع القوانين».
إذاً، المشكلة أن الضمان يعاني شحّاً ماليّاً في التدفقات وعجزاً في فرع ضمان المرض والأمومة. عملياً، تشير الإحصاءات المالية الصادرة عن بوصالح نفسه، إلى أن الاشتراكات المحصلة في عام 2019 بلغت 835 مليار ليرة مقارنة مع 948 مليار ليرة في 2018 و846 مليار ليرة في 2017. ما يعني أن حجم التراجع في الاشتراكات المحصّلة ليس كبيراً ولا يبرّر مخالفة قانون الضمان. لكن هناك من يبرّر الأمر بالعجز المتراكم في ضمان المرض والأمومة الذي بات يشكّل 23% من الاشتراكات المحصّلة، لكن اللافت أن هذا العجز بدأ يظهر منذ 2001 وهو يتراكم منذ ذلك الحين، فهل هذا هو الحلّ المطلوب للضمان؟ أن يستمر ترهّل الإدارة والهدر والفساد؟
في الواقع، تنصّ المادة 66 من قانون الضمان على الآتي: «إذا زادت مصاريف فرع ضمان المرض والأمومة، فيقرر رفع معدّل الاشتراكات … ويمكن للدولة خلال السنة المالية أن تقدم سلفات إلى الصندوق لتحقيق التوازن في موازنته، تحدّد بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء شروط هذه السلفات وكيفية تسديدها. وإذا حدثت كارثة وطنية أدت إلى عجز بالغ في الصندوق، يمكن للدولة ان تمنح الصندوق مساعدة استثنائية تحدّد على أساس إعادة التوازن المالي بدون زيادة الاشتراكات».