ليس أمام السوريين واللبنانيين سوى مواجهة الحصار الأميركي بتنسيق كامل، وإلّا فإن الفوضى الأهلية وخطر الجوع يهدّد البلدين في تسارع واضح قبل أشهر من الانتخابات الأميركية. وإن كانت سوريا قد اعتادت على الصمود والصبر ولديها خيارات بديلة عبر حلفائها، يعزل لبنان نفسه عن عمقه بانتظار قروض من صندوق النقد، يصعب أن تأتي من دون تنازلات سياسية
المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري لخّص، قبل أيام، مجمل السياسة الأميركية الجديدة تجاه سوريا، حين أكّد أن «انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار سببه الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية». وتلك المعادلة، على الرغم من كلّ الأسباب الداخلية الدافعة إلى الانهيار في لبنان، يصلح إسقاطها على التطوّرات اللبنانية. على الأقل، منذ القرار الأميركي بإسقاط «جمّال ترست بنك» في أيلول الماضي، واستعجال انهيار الليرة أمام الدولار. وربط جيفري بوضوح بين التطورات السورية واللبنانية، مؤكّداً أن «النظام السوري لم يعد باستطاعته (تبييض) الأموال في البنوك اللبنانية التي تعاني من أزمة». فوق ذلك، فإن جويل ريبورن، زميل جيفري في إدارة الملفّ السوري وضابط المخابرات العسكرية في الجيش الأميركي، ومنذ تعيينه في منصبه قبل عامين بعد خدمة طويلة في العراق، لا يُخفي تعامله مع سوريا ولبنان كملف واحد وأعداء مشتركين، من الدولة السورية إلى حزب الله وحلفائهما في لبنان. وهو اليوم، مع زملائه الجنود الأميركيين المحتلّين للشرق السوري وقاعدة التنف وشمال الأردن وعلى الحدود اللبنانية، في أعلى درجات الاستنفار، لتشديد الحصار البري على دمشق، من جهاتها الأربع، وخصيصاً من الغرب، لعزل سوريا والمقاومة معاً.
تناغم العمل في الساحتين بدا واضحاً خلال الأسبوع الماضي لأكثر من شخصية سياسية وازنة. أوّلاً، في لعبة ارتفاع الدولار «الإعلامي» في بلد كلّما انخفض في بلد، كما حصل خلال اليومين الماضيين بعد انخفاض الدولار أمام الليرة السورية إلى 2000 في دمشق، ثم ارتفاعه في بيروت إلى 5000 ليرة. ثانياً، في الإصرار الإسرائيلي على استخدام الساحة اللبنانية لقصف سوريا، على الرغم من مجموعة مؤشّرات عبّر عنها السوريون والمقاومة تؤكّد ضيق صدرهم من هذه الضربات. وثالثاً في التناغم بين تظاهرة 6 حزيران التي تعمّد القائمون عليها رفع المطالبة بتطبيق القرار 1559 ونزع سلاح المقاومة، وبين تظاهرات محدودة لـ«التصوير»، هدفها إعلان سياسي عن حركة للمعارضة السورية في السويداء والجنوب السوري عموماً، تطالب بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.
أكثر من مصدر في دمشق وبيروت وصف أزمات الدولار بـ«المفتعلة والإعلامية». ويقول مصدر اقتصادي سوري إنه «لا يوجد أي مبرّر لارتفاع أسعار الدولار سوى الأجواء الإعلامية التهويلية التي تسبق قانون قيصر، وخصوصاً أن الحركة الاقتصادية مجمّدة بفعل كورونا وانتظار ظهور تبعات تنفيذ القانون، فضلاً عن أن الدولار لا يتم التداول به في السوق السورية بين المواطنين». لكن يقول المصدر إن «الجماعات الإرهابية المسلّحة في منطقة سرمدا في إدلب، قامت خلال الأيام الماضية بعملية سحب للدولار من التجار، وضخت بالتوازي أموالاً نقدية من العملة التركية في الشمال، تمهيداً لإخراج الليرة السورية من منطقة إدلب». أمّا في الشرق السوري، فجاء الإعلان الكردي عن منع بيع القمح إلّا لمكاتب «الإدارة الذاتية»، والدفع بالدولار بدل الليرة السورية ثمن المحاصيل بأرقام تفوق ما تدفعه الدولة السورية، لتساهم في رفع مستوى الحصار. وكذلك فإن تصريحات جيفري ترافقت مع قيام الوحدات الكردية بشراء الدولار من السوق، حتى وصل سعره إلى 3700 ليرة سورية في مدينة منبج. لكن ذلك بحسب المصدر السوري «لم يؤثّر بشكل مباشر في السوق كما أثّر الضخّ الإعلامي، وقيام بعض تجار الأزمات بالمضاربة، التي تمّ ضبطها سريعاً من خلال توقيفات واعتقالات لمضاربين ومصادرة أموال كانت بحوزتهم».
الجماعات الإرهابية في سرمدا سحبت الدولار من التجار وضخّت مبالغ نقدية من الليرة التركية
وممّا لا شكّ فيه أن «قانون قيصر» يقدّم مشهداً جديداً من العقوبات على سوريا، في استهدافه كل من يتعامل مع المصرف المركزي السوري، بما يعني كل أشكال التعاون، من جلب البضائع نحو الداخل السوري إلى إصلاح محطة كهرباء أو مصفاة نفط، إلى بيع سوريا مستلزمات أو معدات طبيّة من أي مصدر في العالم، لم يكن يطاولها الحصار حتى وقت قريب. وهذه العقوبات تستهدف كل من يفكّر بعودة العلاقات مع سوريا، لفرملة الاندفاعة العربية نحو دمشق، ومنع دول أوروبية مثل اليونان وإيطاليا تعمل على فتح سفاراتها في الشام من المضيّ قدماً في استعادة العلاقة الطبيعية مع سوريا.
وكذلك فإن الأزمة في لبنان، وعلى مراحل، حرمت سوريا ولبنان من كميّات من الدولارات كانت تمرّ عبر المصارف اللبنانية. إذ إن المعدّل اليومي لحركة دخول وخروج الدولار من لبنان إلى سوريا وبالعكس تراوحت خلال سنوات الحرب، بين مليونين إلى ثمانية ملايين دولار في اليوم، إمّا من ودائع سورية في البنوك اللبنانية أو من أموال تحويلات عمّال سوريين في لبنان إلى سوريا، أو من عمليات شراء من الخارج كانت تتمّ عبر لبنان ويدفع السوريون ثمنها في بيروت. مع بدء شحّ الدولار في السوق اللبنانية والانهيار الحاصل في السنة الأخيرة ومنع سحب المودعين أموالهم، لم يعد يتجاوز حجم التبادل بالدولار بين البلدين، عتبة الـ 100 ألف دولار يومياً. ويتوقّع المصدر السوري أن «تعود الليرة إلى الصعود أمام الدولار بنسب معيّنة، حال بدء سريان قانون قيصر، وانجلاء صورة تأثيراته»، مؤكّداً أن «المصرف المركزي السوري لن يتدخّل وسيحافظ على ما يملكه من عملات صعبة لتأمين الحاجيات الأساسية للمواطنين، والهدف الوحيد الآن هو ضبط أسعار السلع الأساسية وإعادتها إلى مستوى القدرة الشرائية للمواطنين».
من كولن باول إلى جيمس جيفري
مرجع أمني عربي يصف ما يحصل لـ«الأخبار» بأنه «عضّ أصابع بين أميركا وإيران ومن خلفهما الصين، في صراع مفتوح من فنزويلا إلى شرق آسيا، وسوريا ولبنان مسرح مهم». بالنسبة إلى المرجع، فإن «التفاهمات الأميركية ــــ الإيرانية الجانبية والمحدودة في العراق، لا تنعكس على سوريا ولبنان الذي وضع تحت مقصلة صندوق النقد». بل على العكس، فإن «الساحتين مرشحتان للتصعيد عبر لعبة الدولار والدفع التدريجي نحو الفوضى العارمة وتوجيه التظاهرات من العناوين المطلبية إلى تحميل الموقف السياسي لقوى المقاومة مسؤولية الانهيار، لتحصيل تنازلات من الرئيس السوري وحزب الله». بالنسبة إلى المرجع، فإن «الرئيس الأميركي دونالد ترامب يحتاج للوصول إلى تفاهم كبير مع إيران قبل موعد الانتخابات في تشرين المقبل، وإيران تدرك هذا الأمر وتلعب لعبة الانتظار والصبر على الضغوط والحصار». ويضيف المرجع إن «كل التحضيرات في الداخل الإسرائيلي تؤشّر إلى الاستعداد لضم الضّفة الغربية قريباً، وبالتالي فإن المطلوب إرباك كبير في الساحات المحيطة بفلسطين، ورفع منسوب الضغط على الفريق المعارض لصفقة القرن».
لم يعد يتجاوز حجم التبادل بالدولار بين لبنان وسوريا عتبة الـ 100 ألف دولار يومياً
يتفق مصدر دبلوماسي روسي مع المرجع الأمني حول بند الضفة الغربية. يقول إن «الأميركيين والإسرائيليين يعدّون لضم الضّفة الغربية، ما سيترك تداعيات خطيرة على الاستقرار في الشرق الأوسط». ويعتبر المصدر أن «عملية التصعيد في سوريا ولبنان هي عمل تضليلي لأن الحدث السياسي في فلسطين». وبالنسبة إلى الدبلوماسي الروسي، فإن «الهدف هو خلق أجواء إحباط لدى الفريق المنتصر في الحرب على الإرهاب في سوريا ولبنان لانتزاع تنازلات منه قبل موعد الانتخابات الأميركية». ويؤكّد المصدر الروسي أن «موسكو ملتزمة بمنع انهيار الوضع داخل سوريا، وهناك العديد من الحلول التي سيتمّ المضيّ قدماً بها لمنع معاقبة الشعب السوري الذي حارب الإرهاب لعشر سنوات».
هل يمكن أن نرى جسراً بحرياً لدعم دمشق؟ يجيب المصدر: «هناك عدّة آليات عمل على الطاولة، وسوريا ليست وحيدة».
مصدر قيادي في قوى 8 آذار يرى أن «العرض الذي تحدّث عنه جيفري للرئيس الأسد، لا يختلف عن عرض كولن باول إبان احتلال العراق لوقف دعم المقاومة وإجراء تفاوض مع إسرائيل، لكن مع مطالب إضافية هذه المرّة بالموافقة على إدارة لامركزية موسعة مالية وسياسية واقتصادية للأكراد وللجماعات المسلحة في إدلب في دستور جديد من دون استفتاء السوريين، يقابلها انسحاب أميركي وتركي وعودة تدريجية للعلاقات العربية والغربية مع الدولة ووعود بالمساعدة على إعادة الإعمار، بالتوازي مع تغيير في بنية النظام اللبناني تتناسب مع الحلول اللامركزية الموسّعة وضمان توطين الفلسطينيين وتقييد سلاح المقاومة تحت ذريعة الاستراتيجية الدفاعية وعودة تدريجية للنفوذ في لبنان برعاية أميركية بذريعة ضبط الاستقرار».
كل هذه الضغوط والتطوّرات، بالنسبة إلى القيادي «هي ظروف مؤقّتة لا بدّ من مواجهتها بالمثل، أي بالعمل ككتلة واحدة من لبنانيين وسوريين لتجاوز ما يفرض علينا معاً وليس انخراط لبنان في تطبيق قانون قيصر». ويضيف إن «كل الظروف اليوم باتت تدفعنا للتوجّه نحو الشرق، والأميركيون يثبتون لحلفائهم قبل أخصامهم، أنهم لا يأبهون إن سقطت المنطقة بالفوضى أمام مصالحهم، ونحن علينا أن نبحث عن مصالح بلادنا لا أن ننفّذ ما يطلبه الأميركيون منّا، بينما تعمّ التظاهرات ساحات واشنطن ونيويورك ويلجأ ترامب إلى المركز الآمن لحماية نفسه».
قلق أوروبي من الفوضى الشاملة
لا يخفي مصدر دبلوماسي أوروبي حجم القلق الذي يعيشه بعض العواصم الأوروبية، كباريس وبرلين، من خروج الوضع اللبناني عن السيطرة. وشكّلت الأحداث الأخيرة، ولا سيّما التوتّر المفتعل بين عين الرمانة والشياح، وما تلاه من توتّر في بربور وكورنيش المزرعة وتبادل لإطلاق النار، «مؤشّراً خطراً بالنسبة إلى المجموعة الأوروبية. هناك عودة لوحش الصراع السنّي – الشيعي، وهذا يهدّد بالخروج من أي ضوابط كانت مرسومة للصراع اللبناني التقليدي». ويتخوّف الأوروبيون، بحسب المصدر، من «أثر الانهيار على الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد، وتراجع قيمة رواتب الضباط والجنود، وانعكاس الانقسامات الداخلية على هذه الأجهزة، ما يجعل السيطرة على الفوضى اللبنانية أمراً مستحيلاً».
ولا ينسى المصدر، في حديث مع «الأخبار»، التذكير بـ«الدور التركي السلبي في ليبيا وفي شمال لبنان، وهو دور مشابه لما يقوم به الأتراك في أوروبا من تسعير للعصبيات الدينية وبسط النفوذ بهدف المشاركة في السيطرة على الموارد في المتوسّط». وفيما يؤكّد المصدر أن «الدول الأوروبية المعنية بالملفّ اللبناني والسوري مضطرة إلى التدخل قريباً»، يشير إلى أن «الأوروبيين لن يدفعوا أموالاً في ظلّ غياب الشفافية الموجودة حالياً. لذلك، على الحكومة اللبنانية والقوى السياسية المسارعة إلى تقديم تطمينات لهذه الدول بأن الأموال ستصرف في مكانها الصحيح لاستعادة الدورة الاقتصادية وتحقيق الاستقرار النقدي والاقتصادي بما يخفّف من أسباب الهجرة وحدوث الاضطرابات الأمنية». وما ليس خافياً، أن هذا القلق انسحب على غالبية البعثات الدبلوماسية الأجنبية، ولا سيّما الأوروبية والغربية، التي أجلت قسماً كبيراً من عائلات الموظفين وأعادتهم إلى بلادهم خشية تدهور الأوضاع في لبنان.