موقع اوان
١٠ آب ٢٠٢٠
حسام مطر
الفراغ، ولا شيء آخر، هو عنوان المرحلة في لبنان. هو الفراغ الذي ابتلع بيروت قبل أيام. هو فراغ الإفلاس المالي، وفراغ انهيار أجهزة الدولة الإدارية، وفراغ انعدام الحلول لدى القوى السياسية، وفراغ عجز البدائل لدى قوى المعارضة، وفراغ الدور لدى الخارج. الدولة اليوم هيكلٌ فارغٌ إلّا من المؤسسات الأمنية والعسكرية، وطوائفَ مضطربة ومتوجسة، وعلى جانب هذا الهيكل مقاومةٌ مكتملةُ البنيان، لكنّها مهددةٌ اليوم أيضاً بهذا الفراغ. في هذا الفراغ الكبير، يتحرّك العبث والرهانات المتوهمة واليأس وبعض الأحلام، والكثير من الخراب والآلام ومشاريعُ الخارج.
انتهت الحرب الأهلية برابحين دمّروا بالسلْم ما تبقى من الدولة عبر المحاصصة بين النخب الطائفيّة وإقامة دويلاتٍ موازية داخل الدولة والمجتمع والقطاع الخاص. فيما بدأت مرحلة ما بعد 2005 بتوافقاتٍ أعادت إنتاج ظروف الحروب من التجييش الطائفي والمذهبي والانسياق في مشاريع الخارج. وفي ظل دخانِ هذه الفوضى، استُكمِل نهب المال العام إلى حدِّ الإفلاس.
إذاً، الدولة جرى تجويفها، وتبدّدت مشروعيتها ومواردها وسلطاتها إلى الكيانات الموازية. فيما لا تمتلك القوى الموجودة داخل السلطة مشروعاً جديّاً لبناء الدولة، عجزاً أو تعمداً، فهي وليدةُ اللادولة. أما القوى خارج السلطة فهي إمّا لم تتحول إلى كتلٍ قادرة، وإمّا لا تمتلكُ مشاريعَ مكتملةً كونها عاجزةٌ عن فهم السياق الخارجي للأزمة، أو بسبب تجاهلها مسألة توزيع الثروة والقضايا الاجتماعية. وأما الخارج، فهو غارقٌ في أزماته من ناحية، ويفتقد لأدوات التأثير الكافي من ناحيةٍ أخرى، فضلاً عن حدّة الأزمات بين القوى الخارجية بما يجعلها أكثر عجزاً عن نسج توافقاتٍ حول الشّأن اللبناني.
للخروج من هذا المأزق، أصبحنا بحاجةٍ لطروحاتٍ جذريةٍ تتجاوز إنتاج توافقٍ جديدٍ بين القوى السياسية وفق القواعد القديمة، فنحن بحاجةٍ لقواعدَ جديدةٍ لعمل النظام والسلطة. فالسعي للإصلاح من داخل القواعد الحالية ليس إلا تمديداً للفراغ، وحكومةُ الوحدة الوطنية (كما ترى فرنسا) ليست إلا تمديداً للفراغ، وانتظارُ تسويات الخارج ليس إلا تمديداً للفراغ، وانتخاباتٌ مبكرةٌ وفق القانون القديم (كما تطمح واشنطن وحلفاؤها) ليست إلا تمديداً للفراغ، والإصرار على التفسيرات الموسّعة للديمقراطية التوافقية، بحجة الميثاقية، ليس إلا تمديداً للفراغ. بينما يتراوحُ الخروج من الفراغ بين حدين: إعادةُ إنتاج السلطة، وإعادةُ إنتاج النظام.
يكون عنوان إعادة إنتاج السلطة عبر توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة ذاتها من خلال تمكين كلّ اللبنانيين من امتلاك صوتٍ متساوٍ في تحديد مُمثليهم داخل السلطة البرلمانية. تستند السلطة، بواقعها الحالي، إلى مشروعيةٍ معطوبةٍ بعد أن تبدّد جزءٌ من نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة تحت وقع الانهيار. وهذا ما يستدعي إقرارَ قانونٍ انتخابيٍّ جديدٍ يضمن توسعةَ القاعدة الاجتماعية للسلطة، وتجاوزَ الانقسام التقليديّ بين 8 و14 آذار، ويؤكّد صحةَ التمثيل، ويقوّض حدةَ الانتماءات الضيقة، ويجعل المهمّشين في عملية توزيع الثروة وعوائد النمو أكثرَ قدرةً على الدفاع عن مصالحهم. كما يكون بإمكان القانون الجديد إنتاجَ مجلسٍ لديه فعاليةٌ أكبر في المحاسبة والرقابة والتشريع، في مقابل طغمة أصحاب رؤوس الأموال والامتيازات. يقوم القانون المفترض هذا على ركنين: لبنان دائرة واحدة لكل لبنان، والنسبية، وربما مع تضمين “كوتا” خارج التوزيع الطائفي، وتخفيض سن الانتخاب، وسواها من الإصلاحات الضرورية.
أما إعادة إنتاج النظام فهو مسارٌ أكثر تعقيداً ويستلزم ظروفاً داخليةً وخارجيةً محددة. يمكن لهذا المسار أن ينطلق من حوارٍ للتفاهم على مرحلةٍ انتقاليةٍ للديمقراطية التوافقية، وفقاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف، على أن تكون المرحلة محددةً بوضوحٍ زمنيٍ وموضوعي. فإنتاج النظام لا يمر بالضرورة من خارج ميثاق الطائف. يمكن تطبيق المرحلة الانتقالية من ضمن هذا الميثاق، والذهاب نحو تعديلاتٍ دستوريةٍ لا تتعارض مع الميثاق، مع الأخذ بالحسبان وجود آراءٍ ترى أن دستور الطائف خالف بعض ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني (ميثاق الطائف) وأن الميثاق ذاته أكثر تقدميّةً من الدستور. وإلا، فإنه لا يبقى سوى التوجه نحو مؤتمرٍ تأسيسي ينتج ميثاقاً جديداً بعد ميثاقي 1943 والطائف، وهذا، بطبيعة الحال، خيارٌ أكثر تعقيداً.
في هذا المسار لتجاوز الفراغ، سيكون الخارج حاضراً بطبيعة الحال لحفظ مصالحه ودوره. ولكن لا يتحرك الخارج محرراً من الوقائع الداخلية وتوازناته ولاعبيه. فراغ الدور الخارجي في جانبٍ منه هو فرصةٌ يمكن أن يستفيد منها بعض اللبنانيين لمحاولة إطلاق مسارٍ نحو إعادة تحريك العملية السياسية بما ينقل التنافس من الهويات إلى المصالح الاقتصادية والمالية. كما بإمكانه منح مسألة قضية الاستقلال الوطني بعداً اجتماعياً.
ستستمر التداعيات السياسية للانفجار الكارثيّ في مرفأ بيروت لفترةٍ طويلةٍ كونه سيبقى ضاغطاً على وعي اللبنانيين، وسيساهم في تشكيل تصوراتهم تجاه وطنهم وانتماءاتهم وخياراتهم. أدرك جزءٌ كبيرٌ من اللبنانيين بعد الانفجار، بسبب هول الحادثة وأثرها على شعورهم بالأمان، أن انعدام الدولة أمرٌ لم يعد من الممكن التعايش معه، أو حتى معارضته بتعقلٍ، كون الأمر يمثل تهديداً مباشراً لحياتهم وأرزاقهم. سيكون كلّ ذلك حافزاً إضافياً لإنهاء حالة الفراغ، ولكنه ليس كافياً. لا تزال هناك المصالح والتوازنات والخيارات للفاعلين المؤثرين، في الداخل والخارج، وهي التي ستحسم سؤال الفراغ.
لعيون الطفلة ألكساندرا نجّار، ولأكتاف علي مشيك المنحوتة بأكياس القمح، ولنخوة شهداء فوج الإطفاء، و”للحليوة أبو عيون عسلية” كما وصفته أمه الملهوفة، لمن ما زال تحت الركام، ولمن ذاب في الهواء، ولغربة العمال الأجانب الشهداء الغرباء، ولكل ضحايا انفجار المرفأ، لكلّ هؤلاء أقل الواجب، بعد الحقيقة والعدالة، أن نوقف هذا “الثقب الأسود” المسمّى المنظومة الحاكمة ونمنعه من ابتلاع المزيد من الأحبّة والأحلام.