عندما تمنّى رئيس الحكومة السابق سعد الحريري سحب إسمه من التداول في مسألة التكليف الحكومي، لم يستشر أحداً، لا حليفاً، ولا صديقاً، ولكنه عمد إلى تكرار نشر بيان سبق وطرح مثيله في الأسابيع التي تلت إستقالته من رئاسة مجلس الوزراء، في فترة البحث عن شخص يؤلّف الحكومة، قبل ان تُسمّي حينها كتلٌ حسان دياب رئيساً بدلاً من الحريري المُنسحب.
هل هي الأسباب ذاتها التي دفعت “الشيخ سعد” للإنسحاب من المشهد الحكومي الآن؟ في الشكل: نعم.
لم يرض لا تكتل “الجمهورية القوية” ولا “تكتل “لبنان القوي” تسمية الحريري، لا في المرّة السابقة، ولا حالياً. يُعتبر التكتلان “القواتي” و”العوني” يمثلان الثقل المسيحي النيابي والشعبي. لم يرض الحريري أن يعود الى السراي الحكومي من دون أحد هذين التكتلين، كي لا يفقد الدعم الميثاقي. ثم أتى موقف الحزب “التقدمي الإشتراكي” الضمني ضد تسمية “الشيخ سعد” الآن لتأليف الحكومة، ليزيد من إرباك الحريري. وإذا كان معروفاً رفضُ رئيس رئيس التيار “الوطني الحر” النائب جبران باسيل تكليف “الشيخ سعد” لتأليف مجلس الوزراء، من دون مشاركته شخصياً في الحكومة، وهو أمر لا يقبل به الحريري، فإن موقف كلّ من رئيسي “التقدمي” وليد جنبلاط و”القوات” سمير جعجع لا ينفصل عن الجو السعودي الرافض لتسهيل مهمة الحريري في رئاسة حكومة لبنانية تضمّ “حزب الله”. يصبّ الموقف الأميركي الحقيقي في ذات السياق، بدليل رفض واشنطن ممارسة اي ضغوط لا على السعوديين، ولا على قوى لبنانية، لإعادة الحريري الى السراي الحكومي. رغم انّ المسؤول الأميركي ديفيد هيل أوحى خلال لقاءاته اللبنانية ألاّ مشكلة أن يتبوأ “الشيخ سعد” رئاسة الحكومة في بلد لا يريد الغرب، لا الأميركيون ولا الأوروبيون، أن ينزلق نحو الفوضى.
إتضح ان واشنطن كانت تجاري باريس في مسارها الرئاسي لفرض استقرار سياسي وامني لبناني، ولاحقاً إقتصادي، يمنع تمدّد النفوذ التركي على الأرض اللبنانية. لكن ظهر أن كلاّ من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية يجلسان على كرسيين متباعدين خلال تعاطيهما مع أزمة لبنان. لا يريد الأميركيون تقديم اي تنازل يصبّ في صالح “محور المقاومة”، لا بل على العكس تسعى واشنطن عبر العقوبات لفرض تنازل ذاك المحور في أكثر من ساحة، وخصوصاً لبنان الذي يقع على تماس مع حليفتها إسرائيل.
من هنا، يُمكن التأكيد أنّ الأميركيين والخليجيين لا يريدون حكومة لبنانية خارج إطار التنازلات. تعتبر واشنطن انها قطعت شوطاً في مسار العقوبات، وهي ستكمل من خلال تلويحها بمزيد من بنود تصبّ في إطار العقوبات على باسيل شخصياً، وهذا ما يُفسر عدم زيارة هيل اللقلوق هذه المرة. قد يكون “الحكيم” ينسجم مع الموقف الأميركي-السعودي، بعدما شارك “القوات” في حكومات سابقة لم تعطه الحصص من خلال التعيينات، ولم تأخذ بآرائه “الإصلاحية” في ملف الكهرباء. لا يُمكن تصنيف رفض جعجع تسمية الحريري في خانة “الإنتقام” من “الشيخ سعد” بسبب تحالف زعيمي التيارين الأزرق والبرتقالي سابقاً، على حساب تحالف معراب-بيت الوسط. لكن، يُمكن الجزم أن جعجع الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع عواصم غربية وعربية، لمس رفض تلك العواصم إعادة تكوين تحالف حكومي يشبه جسم مجلس الوزراء السابق الذي ترأسه الحريري.
هكذا تقاطعت في معراب الأسباب القواتيّة الخاصة مع التوجهات الخارجيّة المؤثّرة. وهو ما ينطبق على قراءة وليد جنبلاط أيضاً الذي يفضّل البقاء خارج السلطة التنفيذية، بسبب طبيعة الأزمة الإقتصادية من جهة، وعدم إتّضاح المشهد الإقليمي حتى الساعة.
لذا، تكامل الرفض الثنائي القواتي-الإشتراكي مع الممانعة الباسيلية في إجهاض طرح تسويق الحريري لرئاسة الحكومة.
من سيكون البديل؟ لا يمكن الإستناد الى فكرة تعويم حكومة تصريف الأعمال. يثبت معظم وزرائها أنهم ليسوا على قدر المسؤوليات في إدارة الأزمة. يومياً تزداد الصرخات الشعبية والنقابية من جرّاء التقصير الحكومي بملفات حيوية، كان آخرها القطاع السياحي الذي يحتضر.
ما جاء في مضمون بيان الحريري الأخير، يوحي بأنه ليس إستسلاماً لواقع، بل هو مضيٌ بمسار سياسي يشاكس العهد الحالي. وهو ما ينطبق ايضاً على كل رؤساء الحكومات السابقين الذين يشكّلون لجنة أو رابطة، تجتمع عند الحاجة. من هنا سيكون طرح اسم رئيس للحكومة عند “المستقبل” من خارج الرابطة المذكورة.
سبق وتمّ طرح إسم السفير السابق نواف سلام لتأليف الحكومة، لكن تسويقه كان صعباً للحصول على أكثرية نيابية، نتيجة معارضة تُفقده بغياب التأييد الشيعي ميثاقية الخطوة. رغم ذلك، يبدو الآن أن هناك توجهاً نيابياً عند الكتل التي عارضت تسمية الحريري لفرض إسم سلام في الإستشارات الآتية بعد أيام. لكن بالمقابل، هناك من اعاد طرح إسم الوزيرة السابقة ريّا الحسن التي يرتاح لها الأميركيون. تملك وزيرة الداخلية السابقة حظوظاً أكثر من سلام، على إعتبار انها لم تقم بأي عمل استفزازي داخلي. سبق وقامت بخطوات خلال الايام الأخيرة من وجودها في مجلس الوزراء، بشكل يُرضي الشارع الثائر يومها ضد الحكومة. فهل تحصل الحسن او سلام المدعومان غربياً على أكثرية التسميات النيابية في الإستشارات المرتقبة؟ ليس وارداً الأمر في حال سمّى الآخرون شخصية أخرى تستطيع أن تنافس سلام او الحسن. فمن سيكون الإسم المنافس؟.
عندما تمّ نشر إسم رئيس حزب “الحوار الوطني” النائب فؤاد مخزومي على أن ترشيحه من قِبل باسيل لرئاسة الحكومة، كان الهدف نسف الإسم، على إعتبار أن من روّج الشائعة كان يسعى لإثارة الرأي العام السنّي ضد شخصية مطروحة عملياً. أراد مروّجها، -ويرجّح أن يكون متضرراً من مكانة رئيس حزب “الحوار الوطني”-، أن يوحي بأن مخزومي هو مرشح رئيس “الوطني الحر”. جرى تكذيب الشائعة على الفور. علماً ان رئيس حزب “الحوار” هو نائب وصل الى المجلس بفضل أصوات البيارتة لا غير، وهو يتمتع بإستقلالية سياسية مُطلقة. لا يُمكن تصنيفه على انه في محور داخلي، او إقليمي ضد محاور أخرى، بل هو يرتبط بعلاقات جيدة مع كل العواصم، شرقا وغربا، ويمكن ان يفيد لبنان كونه رجل اقتصاد ويملك مشروعاً سبق وأن طرحه. الأهم الا وجود لأي رفض شعبي ضد مخزومي الذي ينحاز في كل مواقفه و محطاته إلى جانب الثائرين ضد النظام والسلطة السياسية. يُمكن إعتباره عملياً أنه مرشح “الثورة”. كان في آخر إطلالاته التلفزيونية منذ أيام يرفع سقف خطابه من دون مراعاة أحد من القوى السياسية.
فهل يكون مخزومي العائد من الإمارات العربيّة منذ أيام هو الرئيس المكلف تأليف الحكومة؟ في حال جرى تبنّي إسمه من قبل غالبية الكتل النيابية، لن تعارض دار الفتوى شخصيّة بيروتيّة منتخبة من قبل المواطنين، ولن يرفض الشارع المنتفض إسماً لا ملاحظات عليه. كما الاّ وجود لأسباب جوهرية تدفع ايّ عاصمة لوضع فيتو على إسم رئيس حزب “الحوار الوطني”. كل شيء وارد في وقت إنطلقت فيه الإتصالات من الصفر في الساعات الماضية.
el-nashra