سلكت المبادرة الفرنسية طريقها الذي رسمته باريس، فتكللت باختيار سفير لبنان في ألمانيا، مصطفى أديب، رئيسا للحكومة بـ 90 صوتا، ليكلفه رئيس الجمهورية ميشال عون عقب ذلك بتأليف الحكومة. ونال أديب أصوات غالبية الكتل والنواب، باستثناء القوات اللبنانية والنائب فؤاد المخزومي (سمّوا السفير السابق نواف سلام)، ليسمّي النائب ميشال ضاهر الوزيرة السابقة ريّا الحسن، والنائب جهاد الصمد الوزيرَ السابق الفضل شلق (امتنع النواب ايلي الفرزلي وشامل روكز وجميل السيد وأسامة سعد من تسمية أحد).
المبادرة الفرنسية تنص في الخطوة المقبلة على تأليف سريع للحكومة، وهو ما تعهّدت به الكتل الكبرى في مجلس النواب، مع اختيار شخصيات غير مستفزة للجمهور، وغير مشتبه فيها بقضايا الفساد، إضافة إلى عدم حصر أي حقيبة بأي حزب سياسي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصل إلى بيروت أمس، وزار السيدة فيروز في منزلها واستقبل الرئيس سعد الحريري في قصر الصنوبر، سيدفع باتجاه تأليف حكومة سريعاً، علماً بأنه يحمل ما يشبه «بياناً وزارياً»، يتضمّن «خطوات إصلاحية» في أربعة بنود: القطاع المصرفي، الكهرباء، مناقصات الدولة، وقانون مكافحة الفساد. وبحسب مصادر سياسية رفيعة المستوى، من المنتظر أن يشدّد ماكرون على هذه البنود في لقائه ممثلي الكتل السياسية الثمانية (المستقبل، التيار الوطني الحر، حركة أمل، الاشتراكي، المردة، حزب الله، القوات، الكتائب) في قصر الصنوبر اليوم. وحتى يوم أمس، كانت مختلف القوى السياسية الرئيسية تعد بتسهيل المهمة أمام الفرنسيين، وبتقديم ضمانات لرئيس الحكومة المكلّف، وطمأنته لجهة أسماء الوزراء وتوزيع الكتل الوزارية.

وبحسب مصادر بارزة في التيار الوطني الحر، سيقدّم رئيس التيار جبران باسيل، في اجتماع قصر الصنوبر اليوم، «مبادرة متكاملة» من نحو 20 بنداً، تتضمن شقاً سياسياً – دستورياً حول الدولة المدنية والمواضيع الخلافية مثل الاستراتيجية الدفاعية وحياد لبنان، وشقاً اقتصادياً – مالياً يتضمن حزمة من الاصلاحات والقوانين المالية يمكن ان تشكل خطة عمل تلتزمها الحكومة وتلتزم تنفيذها ضمن جدول زمني محدد». وأوضحت المصادر أن التيار «يريد أن يلاقي زيارة ماكرون بهذه «الورقة» التي تم التشاور في شأنها مسبقاً مع كل من حزب الله وحركة أمل والرئيس سعد الحريري، على ان تشكّل التزاماً لبنانياً يلتقي مع الالتزام الفرنسي، وعبره الالتزام الدولي، لانتشال لبنان من الهاوية».
مفاوضات الأحزاب التي راوحت مكانها منذ زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الأخيرة، بدأت تكتسب منحًى مختلفاً منذ مطلع الأسبوع الماضي، بالتزامن مع ضغط فرنسي قبيل عودة ماكرون. وانعكس ذلك على أجواء لقاءات رؤساء الحكومات السابقين، فتبدلت أجواء الاجتماعات من متشائمة وسلبية راغبة في «ترك المسؤولين الحاليين يغرقون في أزمتهم»، الى متفائلة بإجراء الإصلاحات ومسهلة لتأليف حكومة جديدة. جرى التركيز بشكل رئيسي على اختيار اسم غير مستفز ويحظى بإجماع سياسي. لعب النائب نجيب ميقاتي دوراً فعالاً في إرساء «نقاش عقلاني»، كذلك فعل الجانب الفرنسي. تم اختيار ثلاثة مرشحين لرئاسة الحكومة، قدّمها الرئيس سعد الحريري إلى الرئيس ماكرون الذي أحالها بدوره على عون ليختار من بينها. وكان جليّاً أن وضع اسم أديب ما بين رئيس مجلس إدارة الميدل إيست محمد الحوت والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، سيؤدي الى اختيار الأول حتماً، لأن عون يعترض حتماً على كل من عويدات والحوت، كلّ منهما لأسباب مختلفة. خيار أديب، الميقاتيّ الذي توطدت علاقته بالحريري منذ عام 2016، يخدم رئيس تيار المستقبل الذي لم يرد تسمية شخصية محسوبة عليه حتى لا يلقى، وحيداً، مسؤولية أي فشل محتمل. وهنا تتعدد الروايات بين أن اقتراح اسم رئيس الحكومة المكلف جاء من باريس، وبين أنه مسمّى من الحريري وسُوّق له فرنسياً. الأكيد أن السعودية غير راضية عن هذا الخيار والتزمت الموقف نفسه من حكومة حسان دياب، من دون أن يكون لها اسم بديل أو مشروع بديل باستثناء الفيتو على الحريري. فجاء موقف نواب القوات اللبنانية متلازماً مع الموقف السعودي عبر تسمية السفير نواف سلام، الأمر الذي وصفه الحريري عندما سئل عنه قائلاً: «كل شيء له حسابه». أما النائب وليد جنبلاط فبدا مطلق اليدين أكثر من القوات، واحتفظ بهامش حركته السياسية ليقف الى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري كما أعلن في تسمية أديب.
أميركياً، لا ضوء أخضر بالمعنى الحرفي للكلمة. ثمة إشارات تعبّر عن موافقة ضمنية تمثلت في اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس اللبناني بعد زيارة ماكرون الأولى وبوساطة منه. ويشير بعض الديبلوماسيين الفرنسيين والاعلاميين إلى أنه «لا تفويض مطلقاً من واشنطن ولن يكون. ثمة إيجابية لافتة لكن ضمن ضوابط». رغم ذلك، تعمل واشنطن على إرسال موفد لها غداة أي زيارة لماكرون حتى لا تخلي له الساحة بالكامل: زار وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل لبنان مباشرة بعد رحيل ماكرون في زيارته الأولى عقب انفجار المرفأ، ويزور مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر بيروت، هذا الأسبوع، غداة مغادرة الرئيس الفرنسي. يُضاف إلى ذلك تصريح السفيرة الأميركية دوروثي شيا، قبل يومين، حين نأت ببلادها عن المبادرة الفرنسية.
ويقول مقرّبون من دائرة القرار في الإليزيه إن ماكرون شرح للأميركيين عدم جدوى سياسة الخنق الكاملة في مواجهة حزب الله، وعبّر عن ذلك في تصريح يوم الجمعة الفائت، حذر فيه من اندلاع حرب أهلية في لبنان في حال تركه لقوى إقليمية. والبديل من ذلك هو بالعمل مع حزب الله على تأليف حكومة قادرة على تحقيق إصلاحات سريعة. وبحسب المصادر، تسعى فرنسا الى إقامة حوار قوي مع حزب الله، مع إدراكها المسبق أن ملف السلاح ودوره الإقليمي ليس على طاولة البحث وغير قابل للمعالجة الآن. لذلك الأولوية «للتفاهم معه حول المساعدة على تحقيق الإصلاحات ولا نشعر بأنه سيعارض ذلك. سؤالنا له اليوم هل يقبل بحكومة مع مهمة واضحة وصلاحيات استثنائية أم لا؟ نحن لسنا أغبياء حتى نطرح على الحزب تغيير استراتيجيته أو الابتعاد عن إيران. لكننا نشعر بأن عليه أن يكون لبنانياً أكثر من السابق. ونحن قلنا ذلك ذلك للأميركيين وللآخرين».
على أن ماكرون نفسه لا ينفي الحاجة الى عقوبات جدية على السياسيين، سواء صدرت عن الجانب الأميركي أو الفرنسي أو الأوروبي، بحيث أجاب عن سؤال مباشر: «نعم العقوبات قد تكون سلاحاً مفيداً في كبح جماح السياسيين الفاسدين في لبنان». ويأتي عدم الإصرار على عودة الحريري في هذا السياق. فالموقف الفرنسي السلبي من الطاقم الحاكم لم يكن وليد الأشهر الأخيرة، بل حسم في لقاء ماكرون بالحريري في 20 أيلول العام 2019. يومها أبلغه أن الأمور لم تعد مقبولة، وأن لا إشارة جدية حول نية الإصلاح، لافتاً الى عدم القيام بأي جهد للحصول على أموال سيدر، حتى إن أحداً لم يهتم بإنشاء موقع إلكتروني خاص بهذا المؤتمر ومساعداته. ففي قصر الإليزيه، كما تنقل المصادر، يسود «اقتناع بأن الفساد مسيطر على كل الفريق الحاكم. نحن نميّز حزب الله لأن لديه أسبابه. ربما يوجد فيه فاسدون أو من حوله، لكنه لا يحتاج الى ذلك، لأن لديه تمويله الجاهز من إيران، ولأن الفساد يدمره من الداخل ويقضي على قوته. لذا نحن نحسم أنه قد يكون الطرف الوحيد في لبنان غير المتورّط، كجهة، في الفساد. ولكن الجميع متورط». وفي هذا السياق، يبرز خرق في ما خص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ثمة حديث جدّي عن إقالته أو دفعه الى الاستقالة قبيل نهاية العام. ماكرون نفسه لا يريد سلامة في موقعه، والأخير ليس معارضاً للفكرة، لكنه لا يريد تقديمها لجهات لبنانية. يريد حاكم المصرف المركزي ضمانة شخصية من ماكرون بعدم ملاحقته قضائياً بعد الاستقالة، على أن يترك لبنان ليعيش في الخارج ويسلّم مهامه الى من تختاره فرنسا. يسعى لنيل هذه الضمانة لاعتباره أن هناك من يريد جعله كبش فداء عن السياسيين. وقد أبلغ فرنسا استعداده للعمل على الإصلاحات في القطاع المالي مع مصرف فرنسا المركزي وليس مع أي جهة أخرى. وإجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان مطلب يصرّ عليه ماكرون في كل تصريحاته، وكرّره مساء أمس فور وصوله الى مطار بيروت وعقب لقائه برئيس الجمهورية. وتحدث أيضاً عن إصلاحات في مجال الطاقة وإعادة بناء المرفأ وإدارة أفضل للبنك المركزي والنظام المصرفي. كما أكد أن أحد أسباب زيارته هو التأكد «من تأليف حكومة مهمة لخدمة الشعب اللبناني ولبنان، وإطلاق اقتراحات بشأن مكافحة الفساد من أجل العدالة».

أصر ماكرون على اصطحاب عساف ويرشحه لتولّي الإشراف على عمل مصرف لبنان وإعادة هيكلة القطاع المصرفي

وتشير المعلومات في هذا الإطار إلى أن هناك إصراراً فرنسياً على وضع بعض الوزارات في عهدة اختصاصيين غير حزبيين، كالطاقة والاتصالات والأشغال العامة والعدل والصحة والمالية. وحتى اللحظة، يبدو أن التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل موافقون على فكرة التخلي عن حقائب باتت «مطوّبة» لقوى محددة (مثال الطاقة والتيار الوطني الحر). ويسعى ماكرون الى استعادة صورة «الأم الحنون» أو «الأب الراعي» للبنان. لديه نصائح بالتعامل مع لبنان من زاوية ثقافية وروحية. تعمّد زيارة السيدة فيروز (أمس) واصطحاب الأديب أمين معلوف. وتقصّد أيضاً أن يحضر معه سمير عساف، المصرفي الذي عمل طويلاً في مصرف HSBC البريطاني وإدارة المحافظ المالية، والذي سبق أن كان رئيساً لماكرون في العمل. وهو يرشحه لتولّي الإشرافِ على عمل مصرف لبنان وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. كذلك يتعمّد أن يرافقه رودولف سعادة، ابن جاك سعادة صاحب شركة «CMA CGM» العملاقة العاملة في الشحن البحري وإدارة المرافئ. وهذه الشركة مرشحة لتولّي مشروع إعادة إعمار المرفأ، إضافة إلى إدارة محطة الحاويات فيه (التي يمر عبرها أكثر من 75 في المئة من عمل مرفأ بيروت) في السنوات العشرين المقبلة. ولدى الشركة تصور لبرنامج إدارة مختلف، يشمل التشغيل والإدارة والأمن أيضاً. وهو برنامج يعمل عليه «فريق مشترك» من 5 شركات فرنسية متخصصة في الأمن والدفاع والصناعات البحرية والمعلوماتية.
من جهة أخرى، تخوض فرنسا في لبنان «معركة واضحة تتعلق بالدور التركي». ويشير الدبلوماسيون الفرنسيون الى «مراقبة باريس لكل ما يقوم به الأتراك في لبنان. هناك عمل جدي واختراقات تركية في جنوب لبنان وشماله وفي بيروت. ونحن سنكون في مواجهة واضحة مع تركيا. ولسنا متردّدين في ذلك، سواء في لبنان أم شرق المتوسط أم في ليبيا».

al-akhbar