الرئيسية / ثقافة عامة / البلاغة و تراثها…

البلاغة و تراثها…

البلاغة فنٌّ تحليلي أصيل، أضحت صناعةً كلامية بعد أن اكتملت مفاهيمها على مرِّ العصور، لتغدو جهازًا يضيء مكونات الجمالية في نصوص الآداب الرفيعة، ومحاورات الناس المألوفة. ومنذ تأسيسها مع الجاحظ (775-868)، في ثنايا “البيان والتبيين”، وضمن نظرات مَن سبقه وعاصره من نَقَدَةِ الأدب وعلماء الخطاب الفصيح، مثل الواسطي والفرَّاء وابن المعتز، ما فتأت مفاتيح هذا الفن تنضج نظرياتٍ مجردةً وخطابًا شكلانيًا، يستقصي مكامن الاستثناء في صياغة الكلام.

وازداد هذا البنيان النظري اكتمالاً مع التحليلات الدقيقة التي أجراها “شيخ الصناعة” عبد القاهر الجرجاني (1009- 1078) مُؤلف صرحَيْن غَيَّرا وجه التحليل الأدبي وهما “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”. وتعالى البناء شامخًا مع تقسيمات تلميذه السكَّاكي (1160-1229)، في “مفتاح العلوم”. وتوالت بعدها الشروح والمتون هادفةً إلى تلخيص الكتب التأسيسية وشرحها تفصيلاً وتفريعا، وهنا بدأت بوادر الإنهاك تتراءى وأعراض الاجترار والتقليد تطغى، ومن أشهر الشارحين الخطيب القزويني (1268-1338)، وازدادت حالة هذا الفن تكلفًا واهتراء مع انتشار فنِّ الصياغة الشعرية للقواعد البلاغية في شكل أراجيز ومتون في مرحلة التحشية والسكولاستيكية)، ومن أبرز الناظمين بدر الدين بن مالك (1203-1274).

وفي الضفة المقابلة للمتوسط، عاش العالم الغربي بإيقاع الشروح المتقادمة على نظريات أرسطو في تصنيفه للاستعارة، وتحاليله للأقاويل الشعرية والمنطقية ضمن دائرة التأويل والتخييل. وكان من أشهر الكتاب الفرنسيين بيار فونتانيي (1765- 1844)، في تأليفه المرجعي Les Figures de discours أو “صور الخطاب”، وهو لا يكاد يختلف في تحليلاته لأوجه العدول عن البلاغيين العرب في عمليات التقسيم والتفريع لمجازات البلاغة وأفانين الفصاحة.

وظلت هذه الكتب تُدرَّس في الجامعات التقليدية، شرقًا ومغربًا، حتى مطالع القرن العشرين حين كانت “صدمة الحداثة”، بحسب عبارة شاعرها أدونيس، وهي هزة شملت أيضا فنَّ الكلام وطرائق التعبير، وتبعا لها خلخلت مناهجَ تحليل الصياغة الأدبية والكشف عن مظان الجمالية فيها. وأدرك حينها المفكرون الحداثيون مثل طه حسين والعقاد في مصر، وأدباء المهجر، في لبنان كما في منافيهم، أنَّ عهد التفاصح قد ولَّى وأنَّ الأدوات البلاغية في التحليل قد اهترأت فلم تعد قادرةً، لا على إنتاج الإبداع ولا على فهم مسالكه المتشعبة، لاسيما وقد تحولت البلاغة إلى مجرد قوالب جاهزة وعبارات جوفاء تطبق بشكلٍ آلي بعد أن امتزجت بالثيولوجيا والمنطق.

على أعتاب الأسلوبية

وكان لبزوغ القصيدة النثرية والشعر الحر مع نازك الملائكة في قصيدتها الطلائعية التي أسمتها “الكوليرا”، ومن قبلها كتابات مَي زيادة (1886-1941)، وهي الوالهة بجبران خليل، أثر كبير في زحزحة الأطر التقليدية للشعر التي عفا عليها الزمن، الأمر الذي حرَمَ البلاغة من مدونتها الأصلية، التي قامت طيلة قرون على تحليلها. وهكذا، تضافرت نزعات التجديد وحركات التحديث الأدبي على زعزعة آفاق انتظار الوعي العربي، ورميه في دائرة مبتكرة من الجمالية، قطب رحاها الوجدان، ولَبِناتها فرادة الصور وغرابة الاقتران بين مكوناتها.

وعلى أنقاض هذا العلم القديم، قام فنٌّ جديدٌ، يتطلع إلى إضفاء العلمية على معابر الابتكار ومناطه الخفي، فأُطلِقَ عليه اسمُ “الأسلوبية”، وربما كان ذلك في مؤلفات أحمد الشايب (1896-(1976 الذي يُعد من أوائل من استخدم مصطلح الأسلوب، رابطًا إياه بالتخييل والوجدان والصياغة الفردية المتفردة، في كتابٍ له مفصليٍّ: “الأسلوب، دراسة بلاغية وتحليلية لأصول الأساليب الأدبية (1939). وبعدها تتالت الأعمال التحليلية بعد أن احتفت بموت لبلاغة وانبثاق الشعرية الأسلوبية على أنقاضها. ولاتزال حقول هذا العلم تتسع ويتأنق الباحثون في مناهج ملامسة الإبداع ويجوِّدون.

ولا يهدف هذا العرض المقتضب إلا إلى استشعار ضرورة التوليف بين المنظوريْن السابقين: فالأسلوبية الغربيَّة، بمختلف مناهجها الإحصائيَّة والسردية والتناصية، قادرة على أن تستقي من كنوز التراث البلاغي العربي ما فيه من لطائف المقولات. والأسلوبية قادرة أن تسترفد من تراث البلاغيين ما فيه من رهافة التحليل، ثم يتشاركان في فهم ظواهر العدول والجِدَّة في توظيف اللغة، تلاعبًا والتزامًا.

ومن الحقول البِكر التي يمكن أن يُعقد في ساحاتها الزواج بين الفنَّيْن حقل الخطابات السياسية والديبلوماسية العربية، وهي ماتزال، على ارتباطها بقضايا راهنة شديدة السخونة، سجينة الاستعمال التقليدي للبلاغة، توريةً وكيدًا، ويكفي أن تُحلل على ضوء هذين المنظورَيْن، العبارة التي أبدع ديبلوماسيو لبنان في اجتراحها من عدمٍ، وهي “النأي بالنفس”، لندرك ذكاء الأسلوب وطرافة التصوير فيها: فمن جهة أولى، تستحضر “النفس” بمثابة كائنٍ يُنأى به صيانةً له من الوقوع في المهالك، ومن جهة ثانية، تستدعى “النفس”، من سياقاتها الميتافيزيقية، مع أنَّ “النأي” من حقول الوجدان والغَزَل تأتَّى، فتلاقى مع جوهر الوجود، ولكنْ في أتون السياسات اللبنانية وحروب المنطقة المشتعلة على أطرافها، وعلى تنازعات جيرانها، وليس أبلغ من هذه التسمية في توصيف “الحياد”، دون إغضاب لأيِّ شقيقٍ من الأشقاء، ولا حتى لألدِّ الأعداء. ولا يمكن أن يضيء مثل هذه العبارات، ويستشعر ما فيها من تلاعباتٍ ومكايدةٍ بين السجلات إلا تحليلٌ يستفيد من الدرس الأسلوبي دون أن يعادي تراث البلاغة.

شاهد أيضاً

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم