ليس الحديث عن “كيمياء مفقودة” بين رئيس المجلس النيابينبيه بريورئيس “التيار الوطني الحر” وزير الخارجيةجبران باسيلجديداً، فهو سابقٌ للانتخابات الرئاسيّة التي انتُخِب بموجبها العمادميشال عونرئيسًا، رغم اعتراض بري، الذي كرّر في أكثر من مناسبة أنّ مشكلة عون الأساسيّة في بعض المحيطين به، الأمر الذي فسّره كثيرون بأنّه “غمزٌ” من قناة باسيل على وجه التحديد.

لكنّ “هدنةً” شهدتها العلاقة بين الجانبين خلال المرحلة الأخيرة، وصلت إلى حدّ الحديث عن “ورقة تفاهم” على وشك الإنجاز بينهما، شبيهة بتلك الموقّعة بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، إلى أن عادت الأمور على ما يبدو إلى نصابها خلال الأسابيع الماضية، مع تفجّر السجال من جديد بينهما، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، على خلفيّة قانون الانتخاب والتمديد، وما بينهما…

حذر وريبة…

يعترف الجميع في لبنان لرئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل بأنّهما ربما الوحيدان اللذان “لم يناما على حرير” في موضوع قانون الانتخاب خلال المرحلة الماضية، وقدّما العديد من الطروح والصيغ الانتخابيّة التي أرادا من خلالها فتح ثقب في الجدار، وإن سقطت جميعها بسلاح “الفيتو”، الذي تناوب على استخدامه مختلف الأفرقاء لإسقاط “ما لذّ وطاب” من المشاريع.

إلا أنّ المفارقة المثيرة للانتباه في هذا السياق هي أنّ احتكار بري وباسيل صفة “أصحاب المبادرة” حتى الأمس القريب جعلتهما في موقع “الخصومة” بشكلٍ أو بآخر، ليبقى “الحذر والريبة” سيّدي الموقف في مقاربة كلّ منهما للآخر في عزّ النقاشات، الأمر الذي ساهم فيه بل ضاعفه “التكتيك” الذي لجأ إليه الفرقاء الآخرون، ولا سيما رئيس “تيار المستقبل”سعد الحريري، باعتماد سياسة “النأي بالنفس” و”تحييد” أنفسهم عن النقاشات حول القوانين المختلفة، طالما أنّ هناك حتمًا من سيرفضها.

ولعلّ أكثر ما “استفزّ” بري على هذا الصعيد هو الشعور الذي انتابه بأنّ هناك من يصرّ على “الزجّ باسمه” في بعض المشاريع الانتخابيّة التي لا تعبّر عنه، وهو ما حصل على سبيل المثال لا الحصر في موضوع القانون التأهيلي، الذي حرص باسيل في كلّ المناسبات على تكرار ثابتة أنّه مشروع بري وليس مشروعه، وأنّه تبنّاه وأدخل عليه بعض التعديلات فقط لا غير، علمًا أنّ هذه التعديلات، برأي بري، نسفت مشروعه من أساسه، وفرّغته من مضمونه، عبر تحويله من مشروعٍ وطني جامِع إلى مشروع طائفي ضيّق. وهذا الشعور نفسه سبق أن انتاب بري حين نُسِبت إليه فكرة المشاريع “المختلطة”، بكلّ ألوانها وتراكيبها وبدعها، حتى تلك التي افتقدت للحدّ الأدنى من البديهيّات التي تقوم على “وحدة المعيار”، والتي قيل عنها بحقّ أنّ البعض فصّلها على مقاسه، بشكلٍ لا يتناسب مع أصول الديمقراطية، وأول تجلياتها الانتخابات.

ولعلّ أكثر ما يزعج بري أيضاً يتمثّل في استمرار “التيار الوطني الحر” بالنظر إلى بري على أساس أنّه “حليف الحليف”، وبالتالي، أنّ “الحليف”، والمقصود به هو “حزب الله”، يستطيع أن “يمون” عليه، وهو ما سمعه كثيراً في الايام الماضية على خلفية رفضه للقانون التأهيلي، في مقابل استعداد الحزب للسير به. بمعنى آخر، فإنّ بري لا يزال في القاموس “العوني” ملحقاً بـ”حزب الله”، وأنّ الأخير قادرٌ على إقناعه بما يرغب، أو في أحسن الأحوال، يستطيع ضبط ردّة فعله لتأتي مشابهة لما حصل في ملف الرئاسة في أسوأ الأحوال، بحيث يعترض بري من دون أن يكون لديه حقّ “الفيتو” المؤثّر.

الندّ للندّ…

هكذا، يمكن القول أنّ العلاقة التي لم تتحسّن كثيرًا أصلاً بين بري وباسيل منذ انطلاقة العهد عادت لتتوتّر على خلفية المشاريع والصيغ الانتخابيّة، خصوصًا بعدما تراءى للبعض أنّ مشروعي بري وباسيل هما اللذان تأهّلا للتصفيات النهائية، وأنّ المنافسة بينهما شرسة للفوز بلقب قانون الانتخاب المتوافَق عليه، وأنهما باتا يتعاملان مع بعضهما البعض وفق قاعدة “من الندّ للندّ”.

وإذا كان باسيل يعتقد أنّ بري، بالتكافل والتضامن مع رئيس “اللقاء الديمقراطي” النائبوليد جنبلاطهو الذي يقف عائقًا أمام إقرار القانون التأهيلي، بعدما وافق جميع الفرقاء الآخرين، بمن فيهم “حزب الله” و”تيار المستقبل”، على السير به، ما يوحي وكأنّه يرفض تقديم التنازلات للوصول إلى التوافق كما يفعل غيره، فإنّ بري يعتبر أنّ القانون بصبغته “الطائفية” لا يمكن أن يمرّ، علمًا أنّه يركّز جهوده على مشروع “الحلّ المتكامل” الذي يطرحه، والذي يحرص على صبغه بالسريّة والكتمان حتى لا يحترق، مكتفياً في الوقت المستقطَع بعناوين عريضة له قوامها “تطبيق الدستور” وإحياء “مجلس الشيوخ” المنصوص عليه في اتفاق الطائف.

وعلى الرغم من أنّ اقتراح بري “الإصلاحيّ”، كما يحلو له توصيفه، أخذ نصيبه من النقاش، أكثر بكثير من الطرح الذي قدّمه مثلاً “الحزب التقدمي الاشتراكي” في مؤتمرٍ صحافي خصّصه لهذه الغاية، إلا أنّ اللهجة “الحادة” التي اتسم بها كلام بري خلال الساعات الماضية بدت أكثر من معبّرة، خصوصًا لجهة قوله أنّه متمسّك بطرحه كما هو، ولن يغيّر فيه حرفاً، وذلك رداً على “التعديلات” التي سارع الوزير باسيل لوضعها على المشروع، والتي يُقال أنّها كفيلة بنسفه من أساسه، خصوصًا لجهة إسقاط القانون “التأهيلي” عليه بشكل واضح، وهو ما دفع بري لانتقاد من يريدون قانونًا يؤمّن التمثيل لمسيحيين محدّدين وليس لجميع المسيحيين.

ولعلّ ما زاد من “امتعاض” بري فتح النقاش عن صلاحيات مجلس الشيوخ كما رئاسته بالشكل الذي حصل، والذي اتّخذ من جديد صبغة صراعٍ طائفي، قد لا يكون الوقت مناسباً له، وهو ما سيؤدي حكمًا إلى نزع الاقتراح من التداول، علمًا أنّ باسيل أيضاً كان من أوائل من وضعوا الألغام في طريقه، حين استهجن طلب التوافق على مجلس الشيوخ في غضون أيام، فيما لم نتفق بعد على مبدأ قانون الانتخاب.

“قلوب مليانة”؟

كثيراً ما قيل أنّ بين بري وباسيل قصة “قلوب مليانة”، و”كيمياء مفقودة”، وغيرها من التعابير المشابهة التي تزخر بها المقالات حول علاقتهما المتأرجحة.

قد يكون كلّ ذلك صحيحًا، باعتبار أنّ رصد حالات توافق بين الجانبين نادر الحصول، ولكنّ الأكيد أنّهما يبقيان “الواجهة” التي يتستّر خلفها الآخرون لتبرير العجز عن التوافق على قانون الانتخاب، لأنّ الأمر لا يزال يحتاج لإرادةٍ حقيقية تبقى غائبة حتى إشعارٍ آخر…