أمين أبوراشد
خرائط وصكوك ومراسيم في وزارة الدفاع اللبنانية، صادرة عن “الجمهورية الفرنساوية” في عشرينات القرن الماضي، وثَّقت الحدود الجغرافية للدول التي كانت تنتدبها فرنسا، ونأخذ قمم جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك مثالاَ، حيث حدد المفوض السامي الفرنسي “دي مارتيل”، بناء على مرسوميّ رئاسة الجمهورية الفرنسية الصادرين في 23 تشرين الثاني 1920 و 16 تموز 1933، الحدود الفاصلة بين سوريا ولبنان بـ “مقلب المياه” في أعالي قمم هذه الجرود، بحيث أن النقاط التي تنحدر فيها مياه الأمطار الى المقلب اللبناني هي بداية الحدود اللبنانية، وتمّ ترسيم هذه النقاط بين بلدة “القبو” عند الجهة الشمالية الغربية من القاع و “بئر جباب” عند الجهة الشمالية الشرقية لبعلبك، ووُضِعت معالم من القبب المعدنية تنتشر كعلامات ترسيم على امتداد الحدود، ولو أن بعضها تمّ العبث به بمرور الزمن نتيجة تداخل هذه الحدود.
والخلاف على الجغرافيا الحدودية السورية – اللبنانية، هو مسألة طبيعية، كما أي خلاف ينتج عن ترسيم تداخلت فيه مصالح دول الإستعمار والإنتداب، وهناك أمثلة عديدة في المنطقة، حيث الخلاف الحدودي اليمني السعودي، والقطري السعودي، والعراقي الكويتي، والإيراني الإماراتي على الجزر الثلاث، وأخيراً ما حصل من اجتهادات حول الملكية والسيادة على جزيرتيّ “تيران” و “الصنافير” بين مصر والسعودية.
لكن الفصل في لبنان، بين لبنانية جرود القاع ورأس بعلبك التي من المُرتقب أن يحرِّرها الجيش من إرهابيي داعش، وبين جرود عرسال و”عدم لبنانيتها” لأن المقاومة حرَّرتها، يُظهر مستوى التفريط بالسيادة اللبنانية، من باب كيدية المهزومين سياسياَ على الأرض اللبنانية ولكن، “الشمس طالعة والناس قاشعة”!
في ندوةٍ تلفزيونية، جمعت مخاتير محافظة بعلبك الهرمل بعد يومين من تحقيق المقاومة نصرها الصاعق الساحق الماحق على إرهابيي النصرة، كان هؤلاء المخاتير الذين تقاطروا من البلدات الشيعية والمسيحية إضافة الى مختار بلدة عرسال، يحملون في جيوبهم خرائطاً ووثائقاً بعضها بالعربية والبعض الآخر بالفرنسية، تؤكد لبنانية جرود عرسال التي حرَّرتها المقاومة، ولو أن بعض المزارعين السوريين قد استغلوا بعض “المشاعات” اللبنانية في عمق يصِل الى ثلاثة كيلومترات في بعض المناطق نتيجة عدم تحديث وتحديد المعالم الجغرافية النهائية بين سوريا ولبنان منذ استقلال الدولتين.
وعدم الإعتراف بلبنانية جرود عرسال، والإعتراف بلبنانية جرود القاع ورأس بعلبك ضمن السلسلة الشرقية الواحدة، هو ليس غباءً من البعض، بل استغباء للشعب اللبناني، لأن ملف عرسال أخذ بعداً سياسياً، وأرادت حفنة من القيادات السياسية جعل هذه البلدة بؤرة مُكايدة غير مُبررة ضمن محيطها، ومعظم أبناء عرسال أبرياء منها، وردود فعل عرسال وجوارها بعد تحرير جرودها جاءت غير مسبوقة على المستوى الوطني في أي نصر حققته المقاومة من قبل، والعرس الوطني للأسرى المحررين الذي بدأ من بلدة القاع هو أيضاً غير مسبوق، بلدة مسيحية صامدة احتضنت كل تلاوين الشعب اللبناني الشريف من سُنَّة وشيعة، وكأن القاع المجروحة من جرائم التكفيريين، شاءت أن تردّ الجميل لمن حما جرودها وداخلها وحما أهلها وكنائسها، فشاءت لحَمَلة السيف الحسيني الذين بتروا أيدي التكفير التي امتدت الى كل المقدسات والرموز الدينية والحضارية في سوريا، أن يمروا في ساحات القاع ومن أمام كنائسها على بساطٍ من أحمر التكريم، هُم الذين نزفوا أحمر الشهادة لتحرير معلولا ورفع أجراسها المنكوبة، وكانوا أول من قرعها في قُدَّاس النصر الذي تحقق بفضلهم.
وفي الوقت الذي كان لبنان يعيش عرس عودة الأسرى، جاءت الصدمة على لسان وزير الداخلية في مقابلة تلفزيونية، حين قال بكل صراحة: الجيش لم يتلقَ يوماً أمراً من مجلس الوزراء لتحرير جرود عرسال، ولا غطاء سياسياً أعطِي له من أحد!
جرود عرسال اللبنانية كما جرود رأس بعلبك والقاع، تحفَّظ البعض عن تحريرها بحجج مكشوفة، قسمٌ منهم اعتبر أن المقاومة تخوض في عرسال معركة خارجية، وقسمٌ آخر اعتبر هذه الجرود أراضٍ مُتنازع عليها،
وقسمٌ اعترف بلبنانيتها ولم يعطِ أمراً للجيش اللبناني ولا غطاءً سياسياً، ويرفض تحريرها بسواعد مقاومين لبنانيين من منطلقٍ كيديّ، كي لا تستثمر المقاومة نصرها الجديد في الداخل، رغم إعلان قائد المقاومة سماحة السيد حسن نصرالله تحرير هذه الجرود ودعوته الدولة لبسط سلطتها عليها!
ختاماً، عرسال لبنانية وتحررت بسلاحٍ شرعيته من شعبه، المسيحي قبل المسلم، لكن البعض، الذي ما زالت لديه رهانات على مستوى إرهابي إسمه أبي مالك التلة انسحب مطأطأ الرأس عبر طريقٍ تتراقص على جنباتها الأعلام اللبنانية ورايات المقاومة، ما على هذا البعض سوى العودة الى لبنانيته والتوقُّف عن الرهانات الخارجية، وكل نصرٍ تهديه المقاومة بالتنسيق العالي مع الجيش اللبناني هو صفحة مجد في كتاب تاريخٍ عظيم سطَّرته دماء الشهادة، وكل نصرٍ ولبنان قامة عزٍّ وكرامة وسيادة بفضل القامات ….
المصدر: موقع المنار