غفران مصطفى – جريدة الاتحاد
عرَف الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير حول القدس، كيف يُعيد ترتيب الأولويات في المشهد العربي العام، بعدما لعبت حروب المنطقة على إيلاء تركيز أكبر لقضايا على حساب قضايا أخرى. لم يدعُ السيد نصر الله الأسبوع الفائت إلى تظاهرة بناء على قرار ترامب الأخير فحسب، بل كان يمهد إلى إعادة قضية فلسطين إلى الواجهة. وهذا التمهيد مقصود. لأن الحروب التي أرهقت الكثير من الناس في الوطن العربي جعلتهم يرقدون في دماء أعزائهم الذين بذلوا أرواحهم في المعارك، أو الذين راحوا ضحيتها. لكن السيد كان مدركاً خطورة قرار ترامب، ويعرف في الوقت نفسه أنه لا باب للوم أحد غيّب قضية القدس سهواً، أو حتى بسبب تراكم الهموم والخسارات. في وقت كان يراهن الاسرائيليون على ذلك.
في خطابه ما قبل الأخير، راح السيد نصر الله يُحدّث الناس عن القدس وفلسطين، عن الشعب الصامد وحيداً وتاريخ الصراع، عن المقاومة وجدواها، وأعاد تسليط الضوء على العدو الأساسي الذي لا يبرح يناكفنا ويتحين الفرص ليمرر مصالحه. كان يحكي حتى يُذكّر لا ليخبر.
فبدأ معهم بالسرد وباستعادة شريط صور طويل ممتد منذ 69 عاماً. كمحاولة لدسّ الحرارة في ذاكرتهم، وليبذل كل فرد ما بوسعه لانقاذ القدس. هكذا مشوا معه، مرددين خلفه هتافاً كنتيجة حتمية لحرقة قلوبهم: “للقدس رايحين شهداء بالملايين”. عرف السيّد كيف يبني أرضيّة تمهد لتلبية دعوته في خطابه ما قبل الأخير للنزول إلى الشارع نصرة للقدس. مضمون خطابه لم يختلف كثيراً عن مضامين خطاباته خلال الحرب على داعش، من ناحية استخدام مصطلحات الترغيب على دحر المعتدي والظالم والدفاع عن الأرض والعرض. لكن ميزته كانت في التوقيت، بعدما صار الناس في أجواء نتائج التخاذل العربي والاذعان لمصالح الأميركيين واسرائيل. فكان الخطاب الأخير هو ذروة السنوات الستّ الأخيرة.
***
ترتيب أولويات الصراع لدى القادة تختلف بينها وبين الناس العاديين، لأن الأخيرين لا يملكون السلطة والقرار. لكن السيد نصر الله في خطابيه الأخيرين عن القدس لم يخاطب القادة ولا الرؤساء ولا السياسيين وزعماء الأحزاب، كان يخاطب الناس العاديين، ليس هذا فحسب، بل كان يراهن عليهم ويضع كل الأمل فيهم بالتغيير وإعلاء الصوت “بأضعف الإيمان”. يعرف السيد قدرة الشعوب على التأثير، لأنها تحكي انطلاقاً من إيمان شخصي بالقضية لا من مصالح ومهادنة أطراف آخرين. فمصلحة الشعوب في فلسطين فردية بالدرجة الأولى، هي الحرية المنسحبة على الحكومات العربية الراضخ بعضها لـ”سلام” مع إسرائيل، والكرامة الشخصية والتاريخ المشترك والحق والعودة. وهذه الحرية لا تعني الفلسطينيين وحدهم، بل هي حرية للكاتب والمؤرخ والرسام والملحن والمعماري وعامل النظافة والسائح وغيرهم الذين يحيلون كل ما سُلب من جماليات الأحلام والخيال والنزهات العادية والرحلات وتجريب نكهات الطعام وأسماء الشوارع والمدارس والقصص العاطفية التي لا تجسرها المعابر والحدود، يحيلونها إلى إسرائيل، وهنا نقطة التحول التي راهن عليها السيد نصر الله. لأن الناس تعنيهم الذاكرة وتقويهم على المضي بينما القادة تسيرهم المصالح.
قبل بداية خطاب السيد نصر الله الأخير، أظهرت الكاميرات مشهداً مألوفاً أعادنا إلى شريط الصور في الثمانينات، بعد استشهاد السيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب، اللذان كانا العدوين الشرسين لاسرائيل. كانت صور الشهيدين وتتوسطهما صورة الإمام الخميني في مقدمة المسيرة. هذا المشهد بالتحديد هو علامة أن الذين نزلوا إلى شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت، يعرفون جيداً من هي إسرائيل، وكيف أنها لا تقابل إلا وجهاً لوجه. لأن القاتل لا تبرح ضحيته بمطاردته حتى تقضي عليه. وهذا ما يحيل إلى أن سردية السيد نصر الله في خطابه ما قبل الأخير لم تكن لتخبر بل لتذكّر بأن العداء ليس مقروناً بقرارات إدارات أميركية متعاقبة، بل بالوجدان والذاكرة والمواقف اليومية.
***
مقاربة القضايا الوطنية وكل ما يتخللها من دفاع عن حق وكرامة، لا تنفصل في الوعي الجمعي العربي والإسلامي عن الواقعة التاريخية المفصلية والملهمة، وهي واقعة كربلاء. هذه الأمة “الولاّدة”، لم يوقفها ضعف أو وهن عن ترصدها لجرائم الاسرائيليين. فتُستحضر المعادلة التي أسس لها السيد نصر الله في كل خطاباته، بأنه إذا كنت مؤمناً بالإصلاح فآمن بالحسين. هذا الإسقاط التاريخي لواقعة الحسين على قضايانا الراهنة هو محاولة لمقاربة أولاً مفهوم الثورة الحسينية في كل مناسبة تسنح له، وثانياً لاستحضار نتائجها حتى يعطي زخماً وقوة وإيماناً وصلابة للشعوب، وليكون يقينهم عالياً بنتائج ما يقومون به، حتى راح يحثهم على وعد يرددوه خلفه في كل ساحات الحرب والصراع، من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن، واليوم في فلسطين أن “ما تركتك يا حسين”، أي لن نترك الظالمين على حالهم.
وأن يبدأ السيد نصر الله خطابه بالجملة نفسها التي بدأها في خطاب النصر بعد حرب تموز 2006، وهي “السلام عليكم يا أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس”، فهي ليست إلا تحية شخصية وعاطفية من السيد الذي دعا فلبّوا، لكن الدعوة الأولى كانت لإيفائهم جزءاً من جميل صبرهم في الحرب وشكرهم، أما الثانية فكانت لتذكرهم بمكانتهم عنده التي أعادتهم في لحظة واحدة أحد عشر عاماً إلى الوراء، وذكّرتهم بوحشية إسرائيل التي اعتدت ودمرت، فيما يقفون اليوم في المكان نفسه الذي وعد السيد بأن يعود أجمل مما كان، وعاد. في هذا السياق نفسه نزلوا نصرة للقدس، وهكذا أعيدت إسرائيل إلى أولويات الهموم لمواجهتها.