خطبة الجمعة ” الإمام الحسن المجتبى (ع) ”
لفضيلة الشيخ علي ياسين العاملي
9-6-2017م
في ليلة النصف من شهر رمضان المبارك ، وفي السنة الثالثة للهجرة النبويّة المباركة ؛ عمّت الفرحة البيت النبوي الشّريف ، أطلّ على العالم الإسلامي نور الإمامة ، فيسرع الحبيب المصطفى (ص) إلى بيت ابنته فاطمة (ع) ، قال : يا أسماء ؛ هاتيني ابني . فجاءته به وقد لُفّ بخرقةٍ صفراء ، فرماها وقال (ص) : ألم أعهد إليكم أن لا تلفّوا المولود في خرقة صفراء ؟ وأخذه (ص) وألباه بريقه ورفع يديه بالدعاء له : اللهمّ إني أعيذه بك وذرّيته من الشيطان الرجيم . وأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، وفي الخبر : إنّ ذلك عصمة للمولود من الشيطان الرجيم . فكان أوّل صوت يقرع مسامعه صوت جدّه النبي (ص) ، فكانت همسات رائعة من سيد الخلق يستقبل بها المولود الكريم العالم الجديد ، غرسها النبي (ص) في أعماق نفس سبطه ، ثم التفت النبي (ص) إلى صهره المتلألئ وجهه فرحاً ونوراً برؤية طفله ، قائلاً له : هل سمّيت الوليد المبارك ؟ فيجيبه الإمام (ع) : ما كنت لأسبقك يا رسول الله . فينظر الحبيب المصطفى (ص) إلى السماء قائلاً : ما كنت لأسبق ربّي . لم تمضِ لحظات إلاّ ويناجيه الوحي على لسان جبرائيل (ع) : سمّه حسناً . وبعد سبعة أيام من الولادة الميمونة يحضر النبي (ص) إلى بيت علي وفاطمة لإكمال مراسم تكريم حفيده والاحتفاء به . فعقّ عنه بكبشٍ ، وأعطى القابلة منه الفخذ ، ليبقي هذا سنّة لأمته بعد وفاته ، ثم حلق رأس حفيده بيده المباركة وتصدّق بوزن شعره فضّة على الفقراء والمساكين ، وكذلك في اليوم السابع أجرى عليه عملية الختان [ لأنّ ختان الطفل الذكر في ذلك الوقت أطيب له وأطهر – كما في الحديث – ] وكنّاه أبا محمد ، وبهذا تمّت مراسيم الولادة .
كانت ملامحه تحاكي ملامح جدّه رسول الله (ص) ، قال أنس بن مالك : لم يكن أحد أشبه بالنبي (ص) من الحسن بن علي . وجاء في وصف صورته ما جاء في وصف صورة رسول الله (ص) : فقالوا إنّه كان أبيض مشرّباً بحمرة ، أدعج العينين ، ذا وفرى ، عظيم الكراديس ، بعيد المنكبين ، جعد الشعر ، كث اللحية ، كأن عنقه ابريق فضّة ، وكما شابه جده في صورته ؛ شابهه في أخلاقه الرفيعة .
عاش مع جدّه سبع سنوات ، أفرغ عليه النبي (ص) أشعة روحه العظيمة ، وأفاض عليه حنانه وعطفه ، وكان يحمله إلى المسجد فكان الطفل إذا ما عاد البيت أعاد على أمّه ما يقوله جدّه في المسجد من خطبة وأحاديث ، فكان ابن رسول الله جسماً ومعنى وتلميذه الفذ .
نشأ في أحضان جدّه (ص) وغذّاه برسالته وتعاليم الإسلام ، وكان حب الرسول (ص) لسبطيه الحسن والحسين عظيماً ، فكان يقطع خطابه في المسجد وينزل عن المنبر ليحتضنهما ، وكان (ص) يقبّل الحسن في فمه ، ويقبّل الحسين في نحره ، ليبقى هذا الاهتمام من النبي (ص) بولديه صورة مترسّخة في أذهان المسلمين ، جاء عن أنس بن مالك أنّه قال : دخل الحسن على النبي صلى الله عليه وآله فأردت أن اُميطه عنه، فقال: ويحك يا أنس! دع ابني وثمرة فؤادي، فإنّ من آذى هذا آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله . وجاء في الحديث : أتت فاطمة (ع) بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله (ص) في شكواه التي توفي فيها فقالت : يا رسول الله هذان ابناك ورّثهما شيئاً . فقال (ص) : أما الحسن فله هديي وسؤددي ، وأما الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي .
وقد ورد الكثير عن النبي (ص) في حقّه وحقّ أخيه الحسين ؛ ما يؤكّد فضلهما ومكانتهما وإمامتهما للأمة ، نذكر اليسير منها : * هما ريحانتاي في الدنيا . * كان (ص) يقول لعلي (ع) : سلام عليك أبا الريحانتين ، أوصيك بريحانتي في الدنيا خيراً . * ويقول (ص) لابنته فاطمة (ع) : ادعي ابنيّ . فيشمّهما ويضمّهما إليه . * (ص) يقول : الحسن والحسين ابناي ؛ من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار . * وأجمع المسلمون أنّ النبي (ص) قال : الحسن والحسين إمامان ؛ قاما أو قعدا . * وأجمعوا أيضاً على أنّه (ص) قال : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة .
بعد انتقال النبي (ص) للرفيق الأعلى ؛ كان عمر الحسن (ع) سبع سنوات ، استمر بتردّده على المسجد ، يحضر الجماعة ويسمع الخطب ، دخل يوماً على الخليفة أبي بكر وكان قد ارتقى المنبر ، فصاح به الإمام الحسن (ع) : انزل من على منبر أبي . فأجابه أبو بكر : صدقت ؛ والله هذا منبر أبيك وليس منبر أبي . وكان الخلفاء الثلاثة يظهرون مودّته ومودّة أخيه الحسين واحترامهما ، يذكر بعض المؤرخين أنّ عليّاً (ع) أرسل الحسن والحسين إلى دار عثمان للدفاع عنه حينما هاجمه من ثار عليه من المسلمين ، الذين ذاقوا شتّى أنواع الظلم من بني أميّة الذين سلّطهم عثمان على الناس ، ليمنع قتل عثمان ، حتى لا تكون هناك فتنة يستغلّها من يتربّصون بالإسلام والمسلمين ، لكنّ المشكلة وقعت واستغلّ دم عثمان كلّ من ثقل عليه ولاية أمير المؤمنين (ع) كمعاوية وغيره ، وأعلنوا الحرب على عليّ (ع) ؛ فكانت حرب الجمل ، ومن بعدها حرب صفّين ، أظهر فيها الإمام الحسن (ع) بطولات عظيمة وشجاعة تحكي شجاعة أبيه أمير المؤمنين (ع) . في حرب الجمل أعطى أمير المؤمنين (ع) الراية لمحمد بن الحنفية ، وأمره أن يتوجّه ليعقر جمل الفتنة ، عندما تكاثرت السهام والنبال عليه توقّف لتنفذ سهامهم ، فأخذ الإمام الحسن (ع) الرمح منه وهجم وطعن رقبة جمل الفتنة ، لاحظ الإمام علي (ع) الحرج على وجه ولده محمد بن الحنفية ، فقال (ع) : هو ابن رسول الله وأنت ابني . وفي حرب صفّين حمل الراية ، وكان إذا حمل ظنّ جيش الشام الذي يهاجم هو علي بن أبي طالب ، لكنّ الإمام علي (ع) نحّاه وقال للمسلمين – عنه وعن الحسين – : امسكوهما حتى لا ينقطع نسل رسول الله (ص) . وكان يأمر ولده محمد بن الحنفية بالبراز ، فجاء بعض المنافقين ليحرّض ابن الحنفية على أبيه ؛ فقا له : إنّ والدك يحب الحسن والحسين أكثر منك . فكان جوابه حواب من ربّاه ربيب رسول الله (ص) ؛ فقال : الحسن والحسين عيناه ، وأنا يداه ، والمرأ يدفع عن عينيه بيديه .
يحدّث الرواة أنّ معاوية لمّا رأى قتال الحسن (ع) وشجاعته وشدّة بأسه ؛ حاول أن يقعده عن القتال فأرسل عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن عليّ فقال: إنّ لي اليك حاجة فالقني، فلقيه الحسن فقال له عبيد الله: إنّ أباك قد وتر قريشاً أوّلاً وآخراً، وقد شنؤوه فهل لك أن تخلعه ونوليك هذا الأمر؟ قال: كلا والله لا يكون ذلك، ثمّ قال له الحسن: لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك، أما إنّ الشيطان فقد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلّقاً بالخلوق تري نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً . قال: فوالله ما كان إلاّ كيومه أو كالغد وكان القتال، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء ـ وهي الخضراء ـ كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر، ونظر الحسن فإذا هو برجل متوسد رِجل قتيل قد ركز رمحه في عينه، وربط فرسه برجله، فقال الحسن لمن معه: انظروا من هذا، فإذا هو برجل من همدان، فإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب قد قتله وبات عليه حتى أصبح، ثمّ سلبه… واخذ سيفه ذا الوشاح، فـأخذ به معاوية بالكوفة بكر بن وائل حين بويع فقالوا: إنّما قتله رجل منا من أهل البصرة يقال له محرز بن الصحصح، فبعث معاوية إليه بالبصرة فأخذ السيف منه .
أوصى له الإمام علي (ع) بالخلافة ، وأشهد الحسين ومحمد بن الحنفية وجميع أولاده والكبار من أصحابه وشيعته ، ثم عهد إليه بكتابه وسلاحه ، وقال له : بُني أمرني رسول الله أن أجعلك وصيّاً لي ، وأعهد إليك بكتبي وسلاحي ، كما جعلني وصيّاً له وعهد لي بسلاحه وكتبه ، وأمرني أن آمرك أن تسلّم هذه الأمانات إلى أخيك الحسين متى حضرك الموت .
تسلّم الإمام الحسن (ع) مسؤولية إمامة المسلمين وهدايتهم في الواحد والعشرين من شهر رمضان سنة 40 للهجرة ؛ يوم استشهاد أمير المؤمنين (ع) ، فبايعه أهل الكوفة بعد أن ارتقى منبر مسجد الكوفة مثنياً على مقام أبيه ، ومبيّناً أحقيّة أهل البيت (ع) بخلافة النبي (ص) .
كان أولى المهمات للإمام الحسن (ع) القضاء على معاوية ، فبدأ بإعداد الجيش ، خاصّة أنّ معاوية كان قد جهّز جيوشه وتقدّم نحو العراق ، يقود جيشه بنفسه ، مصطحباً معه ستين ألف جندي ، انتهى الإمام الحسن (عليه السلام) بجيشه إلى النخيلة ، فأقام فيها ونظّم الجيش ، ثمّ ارتحل عنها وسار حتى انتهى إلى « دير عبد الرحمن » فأقام به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلّفون من جنده ، وأرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه في محلّه ، واختار إلى مقدّمته خلّص أصحابه وخيرة عناصر جيشه ، وكان عددهم اثني عشر ألفاً ، وأعطى القيادة العامة إلى ابن عمّه عبيد الله بن العباس ، وقد زوّده قبل تحرّكه بهذه الوصية القيّمة وهي : « يابن العمّ! إنّي باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألِن لَهُم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأدنهم من مجلسك ، فإنّهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شطّ الفرات ، ثمّ امضِ حتى تستقبل بهم معاوية ، فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فإنّي على أثرك وشيكاً ، وليكن خبرك عندي كلّ يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله ، وإن اُصبت فقيس بن سعد على الناس ، فإن أُصيب فسعيد بن قيس على الناس »
وصل عبيد الله بن العباس إلى « مسكن » فعسكر فيها ، وقابل العدوّ وجهاً لوجه ، وعندها بدأت تظهر بوادر الفتنة بوضوح ، وانطلقت دسائس معاوية تشقّ طريقها إلى المعسكر حيث تجد المجال الخصب بوجود المنافقين ومن يؤثرون العافية ، وكانت الشائعة الكاذبة « أنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلِمَ تقتلون أنفسكم ؟ » . وارتبك الموقف أمام قائد الجيش وسرت همهمة في الجيش عن صدق الشائعة أو كذبها ، فبين مصدّق لها وبين مكذّب ، وبين من يحاول إثباتها على أيّ حال ، ولم يحاول القائد عبيد الله أن يتأكّد من كذب هذه الشائعة وبُعدها عن الواقع ، لأنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان مشغولاً في تلك الأثناء ببعث الرسل إلى الأطراف وتهيئة الكتائب اللاحقة بالطلائع ومكاتبة معاوية بالحرب وبعث الحماس بخطبه اللاهبة المحرضة على القتال ، ولم يكتب في صلح ولم يكن من رأيه آنذاك أبداً .
فَسَرَتْ الحيرة في نفس قائد الجيش ممّا دفعه للانطواء ، فأخذ يفكّر في مصيره ، وكان قد بلغه تخاذل الكوفيين عن التحرّك نحو المعركة وتباطؤهم عن تلبية نداء الجهاد ، فبدت في نفسه بعض التصورات من أنّه في موقف لا يغبط عليه ، وأنّ هذه الطلائع من جيش الكوفة والتي تقف في مواجهة جيش الشام المكتظ لا يمكن أن تقاوم تلك الجموع الحاشدة أو تلتحم معها في معركة مع فقدان توازن القوى بينها . وبينا هو يعيش هذه الحيرة وتلك الأوهام وصلته رسائل معاوية وهي تحمل في طيّاتها عوامل الإغراء التي تمسّ الوتر الحسّاس في نفس ابن عباس من حبّه للتعاظم وتطلّعه للسبق ، وكان معاوية قد خبر نقاط الضعف التي يحملها عبيد الله هذا . وكانت رسالة معاوية تحمل : « أنّ الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلِّم الأمر إليّ ، فإن دخلت في طاعتي كنت متبوعاً ، وإلاّ دخلت وأنت تابع » وجعل له فيها ألف ألف درهم . وكان أسلوب معاوية في حربه مع أعدائه هو استغلال نقاط الضعف في خصومه ، واستغلال كلّ ما من شأنه أن يوهن العزيمة ويشلّ القوى فيهم . وهكذا انكفأ عبيد الله بن عباس على نفسه واستجاب لداعي الخيانة ، ملتمساً لعدوّه الذي وتره بابنيه ، مخلّفاً وراءه لعنة التاريخ ، وقد شاء لنفسه أن ينحدر إلى هذا المستوى الساقط فيدخل حمى معاوية ليلاً دخول المهزوم المخذول ، الذي يأباه كلّ حرٍّ ينبض عنده الضمير . وينبلج الصبح عن افتقاد المعسكر قائده ، فترقص قلوب المنافقين والمسالمين ، وتدمى عيون المخلصين ، هذا والحسن (عليه السلام) لا يزال في موقفه الصلب بضرورة مقاتلة معاوية . ويكاد الأمر ينتقض على الإمام (عليه السلام) في مسكن ، ولكنّ القائد الشرعي ـ وهو الرجل المؤمن الصامد قيس بن سعد بن عبادة الذي جعله الإمام (عليه السلام) خلفاً لعبيد الله بن العباس إذا غاب عن القيادة ـ حاول جاداً في أن يحافظ على البقية الباقية من معنويات الجيش المنهارة بانهزام القائد وإقرار التماسك بين فرقِهِ وأفراده ، فقام فيهم خطيباً وقال : « أيّها الناس! لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل المولَّه … إنّ هذا ولاّه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع » .
وهكذا اندفع قيس الصامد في موقفه ، المؤمن بهدفه ، يودّع سلفه بهذه الكلمات الساخرة اللاذعة التي تكشف عن الماضي الهزيل له ، وعن نفسيته الساقطة التي دفعته للتردّي في هذا المنحدر السحيق . وقد فعل قيس في نفوس سامعيه ما أراد ، فانطلقت الحناجر بحماس وتوثّب تنادي : « الحمد لله الذي أخرجه من بيننا » فصنع قيس حالة من الشدّ والعزيمة في ذلك الموقف الذي كان للانهيار المؤلم الوشيك عرضة ، وعاد النظام يسيطر على عناصر الجيش ، واطمأنّ الناس لقائدهم الجديد .
وصلت أنباء استسلام عبيد الله لعدوّه إلى المدائن ، وشاع جوّ من المحنة في النفوس ، وشعر الإمام (عليه السلام) بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس اليه وأخصّهم به ، وتسرّبت اليه أنباء عن مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقوّاد لمعاوية وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والمواعيد . وممّا يذكر : « أنّ معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه : أنّك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم ، وجندٌ من أجناد الشام ، وبنتٌ من بناتي » . فبلغ الحسن (عليه السلام) ذلك فاستلأم ولبس درعاً وسترها ، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة إلاّ كذلك ، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة .
وهكذا توالت الخيانات في جيش الإمام، ومن ذلك : « أنّ الحسن بعث إلى معاوية قائداً من كندة في أربعة آلاف ، فلمّا نزل الأنبار بعث اليه معاوية بخمسمائة ألف درهم ، ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة ، فصار اليه في مائتين من خاصّته ، ثم بعث رجلاً من مراد ففعل كالأول بعدما حلف الأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنّه لا يفعل ، وأخبرهم الحسن أنّه سيفعل كصاحبه » . ويقف الإمام الحسن (عليه السلام) أمام هذه النكبات والمحن المتتالية ، متطامناً على نفسه ناظراً في أمره ، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة . والذي يظهر لنا من بعض النصوص أنّ ابن عباس لم يفرَّ وحده ، بل خرج معه عدد وفير من الزعماء والقوّاد والجند ، وهو أمر يمكن أن يساعد عليه الجوّ المشحون بالتشاؤم واليأس من توقّع انتصار الإمام (عليه السلام) على عدوّه. وهكذا أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار الخاصة من القواد والزعماء ، وقدتبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند ، حيث كان انهزامهم سبباً لحدوث تمرّد وفوضى شاملة في الجيش . وقد ارتفعت أرقام الفارّين إلى معاوية بعد فرار عبيد الله وخاصّته إلى ثمانية آلاف ، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه فيقول : « إنّه ـ يعني معاوية ـ أرسل إلى عبيد الله بن عباس ، وجعل له ألف ألف درهم ، فصار اليه في ثمانية آلاف من أصحابه ، وأقام قيس بن سعد على محاربته» . واذا أخذنا في اعتبارنا أنّ الجيش الذي كان في « مسكن » إثنا عشر ألفاً فستكون نسبة الفارّين منه إلى معاوية وهي ثلثا الجيش نسبة كبيرة ، في حين كان الجيش الذي يقوده معاوية لمواجهة الحسن (عليه السلام) ستين ألفاً تضاف اليه آلاف الفارّين من جيش الحسن (عليه السلام) . وحقّاً أنّها لصدمة رهيبة ومحنة حادّة تتداعى أمامها القوى ، وتنفرج بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمّل جزءً كبيراً من مسؤوليّتها عبيد الله بن العباس أمام الله والتاريخ ، وحصلت عدة محاولات اغتيال للإمام الحسن (ع) ، حتى اضطر أن يقبل الصلح مع معاوية نتيجة معركة واضحة ، كان معاوية ينوي القضاء على الحسن والحسين والخلّص من المؤمنين ، فلولا الصلح لاستطاع معاوية أن ينسي الأمة ذكر النبي ، ولم يبقِ للإسلام لا اسم ولا رسم ، وكان الصلح ضمن شروط لم يفِ معاوية بواحدة منها .
بعد الصلح الذي تم ؛ رجع الإمام الحسن (ع) إلى المدينة ليكون مرجعاً لطلاب العلم والباحثين عن الحقيقة ، ومواجهة الأفكار المنحرفة والنظريات الفاسدة التي انتشرت بسبب الإسرائيليات والروايات الكاذبة التي كان يدفع معاوية ثمنها لمن باعوا دينهم وصحبتهم للنبي (ص) بدنيا معاوية ، بيّن الإمام زيف إسلام معاوية الذي عمل على التخلّص من الإمام الحسن (ع) بسمٍ دفعه لجعدة بنت الأشعث بعد أن أغراها بالأموال ووعدها بتزويجها من ابنه يزيد ، وفي شهر صفر سنة 50هـ ترتفع روح الإمام الحسن لخالقها بعد أن فضح كذب إسلام بني أمية ، ومهّد الطريق للإمام الحسين (ع) للثورة ، قائلاً للناس : ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، سعى الإمام الحسين (ع) للحفاظ على الإسلام المحمدي الأصيل وحمايته من الانحراف ، ولولا ذلك الموقف منه (ع) لم يبقَ لرسول الله ذكر ، ولا للإسلام والقرآن من أثر ، فكانت شهادته (ع) مناراً وزاداً لكل من يرفض المنكر ويسعى للحق ، فاستمرت المواجهة بين قوى الخير وقوى الشر ، وإن كانت قوى الشر تحقق الغلبة على قوى الخير في بعض الأحيان ؛ لكنّها لم تستطع القضاء على الخير والحق .
إنّ من ساروا على خطى الحسنين (ع) لم يعطوا بيدهم إعطاء الذليل ، وإلى عصرنا الحاضر ، حيث شاهدنا كيف استطاع وريث الأنبياء السائر على نهج الأئمة (ع) حفيدهم الإمام الخميني (رض) أن يحقق حلم الثابتين على خط الولاية والإسلام المحمدي الأصيل بقيام جمهورية إسلامية لا يد فيها لقوى الاستكبار والظلم ، التي أوجدت أنظمة عميلة لها ، تمارس إسلاماً صنعته المخابرات القذرة لتشويه الصورة السمحة للإسلام المحمدي الأصيل ، لتبقى مسيطرة على شعوب المنطقة ومصادرة لخيراتها ، تمارس الكذب والخداع ، حتى أنها لا تتوانى في أن ترمي من يخالفها بدائها ، هم صنعوا الإرهاب وأسسوا الحركة الوهابية – والتي جعلوها منطلقاً للحركات التكفيرية – استكمالاً للمشروع الصهيو أمريكي .
إنّ كل ذي عينين وصاحب أدنى عقل ومعرفة يستطيع أن يكتشف حقيقة الفكر الوهابي والحركات الإرهابية القائمة على أساس تخطيط مخابراتي صهيو أمريكي ، وموّله بعض حكّام الخليج ، وخطّطوا لفتنة طائفية في المنطقة ، عندما بدأوا بشرب السم الذي طبخوه ؛ يعملون على التبرّي منه ، متهمين من واجه الإرهاب من أول قيامه بأنّه صنعه ، ومن المضحك ما صدر عمّن ذكّرنا برعاة البقر ، معلّقاً على العمل الإرهابي الذي حصل مؤخراً في طهران أنه لا بد لمن صنع الإرهاب أن يُصاب به ، وردّده معه أفراد القطيع الذين جمعهم في الرياض . لكنّنا نقول له ، ولمن يرعاهم : أنّ كذبهم ومؤامراتهم وتحشّدهم وجمعهم للجيوش لن يرهب قوى المقاومة والممانعة في المنطقة ، التي أخذت على عاتقها مواجهة الإرهاب والتكفير في المنطقة ، وهي مطمئنة لنصرٍ مؤزّرٍ على المشروع الصهيو أمريكي التكفيري ، لأن قوى الخير والممانعة حذفت كلمة هزيمة من قاموسها ، فلن ينال لمن دفعوا ثمن حمايتهم لأمريكا إلاّ الذل والخسران ، وإن حاولوا أن يحصروا دعم الإرهاب بقطر استضعافاً لها وابتزازاً ، فنأمل أن يكشف ما يحصل الغشاوة عن عيون الكثير من المسلمين ، ويدركون أن حقيقة ما يجري في المنطقة هو لتضييع حقوق الأمة وثرواتها وخيراتها ومقدّساتها وبالأخص القضية الفلسطينية. وأخر دعوانا أن صلّ اللهم على محمد وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين .