إسطنبول | بعد خمسة أسابيع على جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي وتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمسؤولين الأتراك تدور على محورين أساسيين، وهما: أين الجثة، ومن أصدر أوامر القتل، أو التقطيع كما قيل في ما بعد. لم تكن التطورات اللاحقة كافية للرد على هذين التساؤلين، خصوصاً بعد أن برّأ أردوغان ذمة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وقال إنه لا يشك فيه أبداً، في إشارة منه إلى ولي عهده عندما أشار إلى مسؤولية أعلى سلطة في المملكة عن الجريمة التي قال إنهم سيلاحقون مرتكبيها حتى النهاية.
ومع استمرار تسريبات السلطات التركية، ومنذ اليوم الأول للجريمة، فقد أجرى الملك سلمان اتصالين هاتفيين مع أردوغان، وتحدث إليه الأمير محمد بن سلمان، مرّة، من دون أن يكون واضحاً لماذا لم يحسم لأردوغان الموضوع ويقول له ما لديه من أدلة قاطعة حول تفاصيل الجريمة التي تحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني بالمعلومات اليومية عن كيفية مقتل خاشقجي منذ اللحظة الأولى لدخوله إلى القنصلية. جاءت الحلقة الأخيرة من المسلسل لتقول إن جثة خاشقجي تمت إذابتها بالأحماض الكيميائية والتخلّص منها عبر مجاري الصرف الصحي القريبة من القنصلية ومكان سكن القنصل. تذكرنا هذه القصة بالمشاهد التي تم بثها على الهواء مباشرة لعمليات قطع الرؤوس من قبل عناصر «داعش» في العراق وسوريا.
قيادات المعارضة، وفي مقدمها زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كليجدار أوغلو، اتهمت أردوغان بالاستمرار في مساوماته مع الرياض من أجل مصالح مالية، فيما تحدث آخرون في الداخل والخارج عن مساومات أكثر شمولية يسعى من خلالها أردوغان لتحقيق أهداف أكبر، ليس فقط على صعيد العلاقات التركية السعودية، بل من أجل الدور التركي الجديد في سوريا والمنطقة وعبر التنسيق والتعاون مع الحليف الاستراتيجي واشنطن. وهو ما يفسر زيارة رئيسة الاستخبارات الأميركية جينا هاسبل، إلى أنقرة نهاية الشهر الماضي للقاء أردوغان والاطلاع على الأدلة التي تملكها السلطات التركية، وهي تسجيلات صوتية ومرئية من داخل القنصلية ولها علاقة مباشرة بقتل خاشقجي. وقال ياسين أقطاي، مستشار أردوغان، أنه أُبلغ مكتب الرئيس والاستخبارات والسلطات الأمنية بمقتل خاشقجي بعد ثلاث ساعات من دخوله القنصلية، وهو ما دفع كليجدار أوغلو لاتهام أردوغان بـ«التغطية على الجريمة» وبأنه «على علم بأدق تفاصيلها بعد ثلاث ساعات حيث سمح لفريق القتل الذي جاء من السعودية بمغادرة تركيا». وكانت المفاجأة الأخرى عندما قال رئيس جمعية «بيت الإعلاميين العرب في تركيا» الصحافي توران قشلاقجي، بعد ثلاثة أيام من دخول الصحافي إلى القنصلية إن «المجرمين قد قتلوا صديقي جمال في القنصلية وتم تقطيع جثته إلى خمس عشرة قطعة»، وهو ما يعني أن السلطات التركية، باعتبار أن أقطاي وقشلاقجي مقربان من الرئيس أردوغان، كانت على علم تام بجميع تفاصيل الجريمة من الداخل والخارج، استناداً إلى أجهزة التنصت وكاميرات المراقبة في الداخل والخارج.
وهنا يستمر الرهان حول أسباب استمرار الحديث الداخلي والخارجي عن الجريمة، ليكون ذلك حجة «نظريات المؤامرة» التي تعوّد الجميع عليها في هذه المنطقة، وطالما أن المجرم معروف لكن لا أحد يريد أن يحاسبه طالما أنه يملك المليارات، ويقال عنه «خادم الحرمين الشريفين». يريد آل سعود لـ«الحرمين» أن يكونا في خدمة أميركا وإسرائيل، فيما يريد أردوغان لهما أن يكونا تحت تأثيره المباشر أو غير المباشر، إذ تتحدث أوساط «العدالة والتنمية» من فترة عن ضرورة وضع عملية الحج تحت إدارة دولية تلعب تركيا فيها دوراً مهماً يساعدها على زعامة «الأمة الإسلامية» التي باتت تنظر إلى السعودية نظرة سلبية. نظرة تسعى أنقرة في تعميقها وترسيخها من خلال إطالة الحديث عن أدق التفاصيل الخاصة بجريمة خاشقجي وبلذة أفلام الرعب والذعر الأميركية.
ذلك في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن مساومات أنقرة مع واشنطن، وإن وجدت مع الرياض، إنما تهدف أيضاً لتحقيق الكم الأكبر من المصالح التكتيكية والاستراتيجية إقليمياً ودولياً، مع استمرار التنسيق والتعاون مع الدوحة الرابح الأكبر في قضية خاشقجي التي قضت على سمعة الأمير محمد المنافس الأساسي والفعّال للأمير تميم بن حمد. والأخير نجح في الاستفادة من أدق التفاصيل التي يعلن عنها المسؤولون الأتراك الذين لا يهملون النتائج المحتملة للحوار المتعثر مع واشنطن أو بالأحرى الرئيس دونالد ترامب. وإن اتفق ترامب مع أردوغان في موضوع منبج وشرق الفرات في سوريا، فأنقرة لن تتردد ولن تتأخر في ترجمة رغبتها النظرية إلى فعل حقيقي لمزيد من التنسيق والتعاون مع أميركا، وحتى لو أدى ذلك إلى فتور جدي في العلاقة الحميمة بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، ومن خلاله مع الرئيس الإيراني حسن روحاني. وهذا ما تتحدث عنه السيناريوات التي تكتبها الأوساط الديبلوماسية وتشير جميعها إلى احتمال التنسيق التركي ــ الأميركي شرق الفرات والرضى التركي على «وحدات الحماية» الكردية السورية. وسيكون قرار إخلاء سبيل قيادات «حزب الشعوب الديموقراطي» المفاجئ مؤشراً على مثل هذه الاحتمالات المثيرة التي بات واضحاً أنها ستكون ضمن الصفقة الكبرى التي بدأت بمقتل خاشقجي وسيستفيد منها كل من يحصل على الدعم الأميركي المباشر وغير المباشر. وإلا لماذا كل هذا الاهتمام بخاشقجي؟ فهو في نهاية المطاف صحافي، حتى لو كان مقتله المرفوض أساساً شنيعاً وحقيراً وتم اختيار إسطنبول مكاناً لجريمته. وربما يجدر هنا تذكير الرأي العام العالمي بما يعاني منه الصحافيون الأتراك؛ المئات منهم في السجون، وآخرون في المحاكم، والأكثر منهم فقدوا وظائفهم بسبب سياسات أردوغان لإحكام سيطرته على وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، وهو ما يتطلب التخلص من أي صوت معارض في الإعلام والسياسة وأياً كان!
جريدة الأخبار – حسني محلي.