محمد باقر جابر*
شاعر لبناني، صدرت له: “ألحان الصبا”، “هكذا يغني البيلسان”، “ترجمان الماء”. حائز على جائزة سعيد فياض للابداع الشعري عام 2014 عن مجموعته “هكذا يغني البيلسان”.
– سأنزل هنا .. على اليمين لو سمحت.
- ها ! ألم تكن تريد الوصول إلى مدينة (بربر)؟ أمامنا ساعتان حتى نصل!
– تذكرتُ أمرًا ضروريًّا لذلك عليَّ أنْ أعودَ حتَّى أُنجزَهُ وأَرجِعَ.
– لنْ تَجِدَ هنا تاكسي تُوصِلُكَ إلى (مينا) أو سيطلبون منك أجرًا مرتفعًا.
- لا بأس بذلك، المهمُّ أن أنزلَ الآنَ من السيارة.
- أن تنزل! تقصد أن تعود إلى (مينا)؟
تَبَسَّمَ وهو عارفٌ بنوايا صديقه.
– صحيح.. أَنْ أَنْزِلَ حَتَّى أَعود..
- لقد ضَجِرْتَ مِنْ كَثْرَةِ كلامي وأَخْبَاري وحِكَايَاتي، أَعرِفُ ذلك لكنِّي سأبقى أتكلَّمُ وأتكلَّمُ.. سَيَعلَقُ في ذهنكَ شيء ما.. ذكرى ما.. طُرفَةٌ أو فائِدَةٌ أو صورةٌ تافهة عن حَديثٍ مُمِلٍّ.. لَكِنْ سَيَبْقى مَعَك! لذلك لن تنزلَ ولنْ تَرجِعَ لأننا سَنُكْمِلُ السَّفَرَ مَعًا أَخي النَّجِيبُ (نَجيب).
لم ينبس (نجيبُ) ببنتِ شَفَة، فقد افتُضِحَ أمرهُ أمام السِّيد (زكي)، وهو على رَغْمِ لقائه به منذ ثلاثِ ساعاتٍ فقط إلا أنَّه اكتشفَ سِعَةَ مَعرِفتهِ وَسُرعَةَ بَدِيهتِهِ لِذَلِكَ لم يَنْفِ مَلَلَهُ وَحُجَّتَهُ الواهيةَ للهُرُوبِ مِنْ صَاحِبٍ كَثيرِ الكَلامِ في سَفَرٍ طَويل.
السيدُّ زكي رجلٌ خمسينيٌّ، لم يرزقْ بطفلٍ مِنْ زَوْجَتِهِ (سَحَرَ) التي أَحَبَّها لحظةَ عَمِلَتْ في مَكْتَبِهِ مُنظِّمةً للمواعيدِ إِذْ لمسَ فيها مِنَ العِفَّةِ والوفاءِ ما لم يجدْهُ في فتاةٍ قبلها، وهو الثَّريُّ الأَنيقُ والمثَقَّفُ النَّبِيهُ.. أَحَبَّها وقد أَخَذَهُ ذَكاؤها وأناقتُها.. تَزَوَّجَها وهو الذي كان يرى في الزواج سجناً لطموحاته في خوضِ غِمَارِ التِّجَارةِ والتَّجوالِ في حدائقِ الدُّنيا الغَنَّاء.
كانَتْ سحرُ وِسَادَةَ أَحلامِهِ وطَبِيبةَ آلامِهِ، تُؤنِسُهُ إِنْ حَضَرَ وتُسْعِدُهُ في السَّفَرِ.. لم يَخُنْها بِنَظْرَةٍ ولا تَفَاخَرَ عليها بِثَرَائِهِ ولا تَسَلَّحَ بِنَزْعَةٍ شَرْقِيَّةٍ تَجْعَلُه يُهَدِّدْها بالزَّواجِ مِنْ أُخرى عندما اكتشفا عقماً أعاقها عن إنجابِ أَبناء، بل ارتضاها حبيبةً أبديَّةً تغنيه عن كل جميلٍ آخر.
يروي مغامراتِهِ للأستاذ نجيب ويروي له قصصًا عَنِ العُشَّاقِ ثم لا يَلْبَثُ بينَ الفَيْنَةِ والأُخرى أَنْ يَسْتَرسِلَ في الحديث عَنْ رَحَلاتِهِ مَعَ سَحَرَ إلى شواطىء مينا وغاباتِ بربرَ ومشاركاتِهما في كرنفالات (سرمدَ) التي يجتمعُ فيها العشَّاقُ مِنْ كُلِّ نواحي الدنيا، الفلاحونَ والكسبة والتجارُ و..
– كيف يكون كرنفالًا للعُشَّاقِ وفيهِ فلاحونَ وتجار وكسبة؟
– العشقُ يا صديقي اندماجٌ أبديٌّ بين طرفين لا يتخاصمانِ إلا عِنْ مَحَبَّةٍ ولا يَجْتَمِعانِ على ضغينة.
يحاولُ نَجيبُ الفرارَ مِنْ صَديقهِ إِلى كِتَابٍ كانَ قَدِ ادَّخَرَهُ في حقيبته ليقتلَ به مللَ السفر.
– ماذا تقرأ؟
– رواية ..
– لا أحب الروايات فلا وقتَ عنديَ أُضَيِّعُهُ على قِصَّةٍ مِنْ أَربعمئةِ صفحةٍ، ينتابني المللُ .. كُنْتُ أَسْتَأْنِسُ باسْتِمَاعِ قِصَصٍ قصيرة بصوتِ سحرَ الحزينِ ، كانت سمعتها من جدتها .. آه على نهاية سحر الحزينة.
– نهاية حزينةٌ؟
رمى نجيب الكتاب من يده وعدَّل جلسته لناحية صديقه.. رُبَّما أَحَسَّ الآنَ بِأَنَّ صديقه المتَأَلِّمَ يفرُّ بأحديثه الكثيرة من ذكرى حزينة مريرة، لما لمسه مِنْ حبٍّ وتعلُّقٍ بِسَحَرَ التي أرهَقَهُ بحكاياتِهِ عنها ومعها.
– كنتُ في بربرَ لتجارةٍ منذ عامين.. لم ترافقني سحرُ لانشغالها بمرضِ جدَّتها، وخابرتني بعد أسبوعين بأنَّ جدتها ارتحلت، وهي لن تطيق العيش في مينا بعد ذلك.
اتفقنا أن تسافر إلى بربر حتى نؤسس لمستقبل جديد بعيد عن الحزن ولكن !!
خنقته العبرة واستولى عليه الأسى.
ثمَّ أردف قائلاً بنبرةٍ خافتة.. قَتَلَها سائقُ التاكسي واستولى على مالها وذهبها!
– هل عرفتموه؟ هل انتقمتم؟
– لا .. لكنها أخبرتني حينذاك أنها ستركبُ مع سائقٍ جَدِيدٍ إسمهُ (قُتامة).
– وهل بحثتم عن السائق؟
– لا .. لأننا وجدناها جُثَّتَها قَبْلَ حُدودِ بَرْبَرَ ولم نعرفْ في مينا سائقاً بهذا الإسم.
ارتجَّتِ السيارة فجأةً حين خفَّفَ السائقُ سُرعَتَهُ دونما عائقٍ على الطريق.
لم يلتفتْ السيد زكي الغارقُ في ذكرياتٍ أليمة للأمر، فيما حَدَّقَ نَجيبُ بالسائق فوجده مُتَجَهِّماً على غيرِ عادتِهِ طيلةَ مُدَّةِ الرِّحلَةِ ..
– هل ركبتَ قبل هذا اليوم مع هذا السائق؟ وهل تعرف اسمه؟ فهو لم ينطق بكلمة منذ انطلاقنا!
يهمسُ نجيب في أذنِ السيد زكي.
– لا، هو غريب عن منطقتنا لكني كنت مضطرًا للسَّفرِ وقد توقف لي فجأة، ففضَّلتُ الركوبَ معهُ على الإنتظار وحيداً في ساعاتِ الفَجرِ الأُولى.
تغيَّرتْ معالمُ السَّائقِ حين اقتربوا من الحدود ..
شعر نجيب بأنَّ السائقَ أخفى شيئًا في يده اليسرى خلف ظهره.
داخله الرعب والوسواس .
حدَّث نفسه: لا شكَّ أنّه القاتل! نعم هو القاتل!
– أعطوني بطاقاتكم.. نادى الشرطيُّ السائق والراكبين!
سرعان ما انقضَّ نجيب على السائق قائلاً: إنه قاتلٌ ويخفي سكِّيناً!
أمسكه الشرطيُّ فوجده يخفي بطاقة سوقٍ منتهية الصلاحية لا غير..
– أنا لستُ قتامة.. ولست قاتلاً ..
– وكيف عرفتَ أنَّ قتامة هو القاتل إذن؟ قالَ السيد زكي منتفضاً غاضباً وقد لمعت في عينيه نيران الثأر لحبيبة مظلومة.
– إنَّه السائقُ الذي شاهدتُّه منذ ربع ساعةٍ حينَ دستُ على الفرامل فجأة .. كان قد أوقف سيارته إلى يمين الطريق وكانت فيها فتاة.. ضحية أخرى مسكينة.. “قتامة” ليس سوى صديقي أيها السادة!
صور