علي هاشم
مراسل الشؤون الإيرانية في بي بي سي
صنع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بداية جديدة لمسيرته من الباب ذاته الذي كاد أن يغلقه عليها.
كانت الورقة التي رماها على طاولة اللعب الإيرانية ورقة حظ بكل ما للكلمة من معنى، إما أن تصيب وإما أن تخيب.
جَهد ظريف في اختيار زاوية تعطيه فرصة أكبر للخروج بنتيجة من استقالته التي وصفتها صحيفة “ابتكار” الإصلاحية بالصرخة المرتعشة.
صحيح أن للرجل الكثير من الأسباب التي تجعله يثق بأنه صاحب حظوة في بلاده لما حققه خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أن إيران في العادة، والسياسة الإيرانية بالتحديد، مصنوعة من زئبق لا يُؤمن جانبه، ولظريف في مجموعة من أسلافه، في وزارة الخارجية تحديدا، أسوة لا يمكن تجاهلها.
يُمكن وصف ظريف بأنه تركيبة من ماء وزيت، فيه متناقضات لا تجتمع بسهولة في شخص واحد.
ولعل لهذا جذور في مكوثه الطويل في الولايات المتحدة بينما كان يعمل في الممثلية الإيرانية في الأمم المتحدة. هكذا حافظ على طول أناة الإيرانيين وصبرهم بينما درّب نفسه على براغماتية الأمريكيين ورشاقة سياستهم، وهو ما سمح له بمفاوضة الأمريكيين والأوروبيين بنهج مختلف عن ذاك السائد إيرانيا، والذي اشتهر به أمين مجلس الأمن القومي الإيراني السابق سعيد جليلي، وسلفه علي لاريجاني، وحتى الرئيس حسن روحاني الذي ضمّ ظريف إلى فريق عمله مع بداية ولايته الأولى.
يمكن القول إن ظريف استفاد مما سلف في معركة استقالته الأخيرة والتي وإن أعطاها عنوانا عريضا وهو “اعتبار واحترام وزارة الخارجية” إلا أنه ضمّنها إلى النقطة التي أفاضت كأس اشتباكه مع معارضي الاتفاق النووي، ومواجهته مع المناهضين لتوقيع اتفاقية الحد من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتجاذب الصلاحيات والحضور بينه وبين محمود واعظي مدير مكتب رئيس الجمهورية، والأهم مكافحة الشعور بأنه أصبح عبئا على النظام، وأنه في مكانه لا لكونه يستحق ذلك بل لأن الإحراج يمنع الاستغناء عن خدماته.
ومَقتل ظريف في حساسيته وهي تدفعه أحيانا إلى حافة الهاوية، كما في حادثة الاستقالة هذه وكما جرى معه سابقا في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، حين ترجل من قطار الدبلوماسية واتجه نحو العمل الأكاديمي، بعدما جرى تهميشه خلال توليه منصب مندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة.
لا تزال الأمم المتحدة مساحة الأمان لدى ظريف، فهو منذ أن كان هناك في أول عشرينياته، عمل وبنى بيت الزوجية في نيويورك، وصنع شبكة علاقاته التي امتدت من هنري كيسنجر الى جامعات نيويورك ونواديها السياسية المختلفة، إلى درجة دفعت بليزا أندرسون التي كانت تتولى عمادة كلية السياسة والعلاقات الدولية في جامعة كولومبيا لسؤاله بشكل ساخر عما إذا كانت يفكّر في الترشح لمنصب سياسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
مساحة الأمان هذه يستغلها سنويا في صناعة حملات رأي عام لصالح إيران من خلال مقابلات مع مواقع وصحف وقنوات وأمريكية وعالمية، وهي جزء مما يراها مهمته في إعادة تشكيل وعي مختلف تجاه إيران في غرب الكرة الأرضية، بلغته الإنكليزية ذات اللكنة الأمريكية.
يصفه خصومه في الخارج بأنه جوزيف غوبلز النظام الإيراني و”بروباغندي” (دعائي) محترف، يخفي خلف ابتسامته متطرف يبرر انتهاكات حقوق الإنسان لمجرد انها تجري بحق معارضين للإيديولوجيا التي يؤمن بها.
لذلك يواجه حيثما يذهب في بلدان أوروبا مظاهرات من معارضين لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية يرفعون صوره إلى جانب صور قادة بلاده الذين يتهمونهم بهذه الانتهاكات.
ويقول خصوم ظريف الخارجيين إنه يسعى لصناعة رواية أخرى عن إيران، ولذلك فهو لا يتوانى عن تقديم كل التنازلات الشكلية الممكنة لينتزع مشروعية لنظامه الذي تصفه الولايات المتحدة ب “المارق”.
أما أنداد ظريف الداخليين فهم مقتنعون إلى حد كبير بأنه عميل للغرب، “مبتلى بالثقافة الغربية” على حد تعبير عدد من السياسيين الأصوليين ممن حسموا بشكل قاطع أن ما حدث في الاتفاق النووي عام 2015 كان نتيجة مؤامرة نفذها ظريف وفريقه لإضعاف إيران وتحويلها إلى دولة ضعيفة بدلا من أن تكون دولة كبرى في الإقليم.
ويأخذ الوسطيون من الأصوليين في إيران عليه محاباته الصحافة الأجنبية على حساب المحلية وانحيازه لمن يتحدثون الإنكليزية على حساب الصحفيين الآخرين من إيرانيين وجنسيات مشابهة.
وفي طبيعته، يبدي ظريف رغبة أكبر في التواصل مع الخارج منه مع الداخل، لذلك كتب خلال السنوات الست الماضية، أي منذ توليه منصبه وحتى اليوم، العديد من المقالات باللغات العربية والإنجليزية والتركية في صحف مختلفة لمحاول مخاطبة شعوب الدول التي تنتمي لها هذه الصحف.
بيد أن المأخذ الدائم على ظريف وسياسته وخطابه ومقالاته أنه لطالما عبّر عن سياسية خارجية ناعمة بينما كان القادة العسكريون وشخصيات أخرى فاعلة في النظام يعبرون عن سياسة خارجية أخرى. ولعل الوصف الأبرع لذلك كان “سياسة خارجية برؤوس متعددة”.
وبالنسبة لأصحاب هذا الوصف، إيران هي إيران، لكنها تستخدم ظريف كجزرة بينما أصحاب الرؤوس الحامية يمثلون العصا، وبين العصا والجزرة لا ثقة لديهم بأن ما سيقوله وزير الخارجية هو السياسة الحقيقية وما يعبّر عنه أحد ضباط الحرس الثوري على أحد منابر طهران هو الموقف الانفعالي.
يدرك ظريف جيدا أن صناعة السياسة الخارجية في بلاده ليست حكرا على وزارة الخارجية، لذلك فجزء من التوصيف قريب إلى الدقة، فسياسة إيران الخارجية لديها محركات متعددة، من المرشد إلى الحرس الثوري إلى مجلس الأمن القومي وصولا إلى الحكومة وعناصر أخرى غير مرئية.
بيد أن ظريفا يريد أن يكون الرأس الأبرز الذي يعبّر عن هذه السياسة الخارجية، لكي يتمكن ،على الأقل، ضمان الحد من الأخطاء التي يُمكن أن تشكل إحراجا له، والسير في طريق واضح بغض النظر عن تبديل السرعات والاندفاع أو الانكفاء الذي سيطرا على المسير.
خلال السنوات الخمس الماضية، وبحكم عملي في الملف الإيراني، قابلت العديد من الساسة الإيرانيين. ومن بين هؤلاء قابلت ظريف نفسه عدة مرات، بينها ثلاث خلال أيام المفاوضات في فيينا.
عند المقارنة بين ظريف وزملائه الإيرانيين يمكنني القول إنه مختلف عنهم في فنون التواصل لكنه يشبههم في طريقة التفكير.
أذكر أن أحد اللقاءات كان بعد ساعات من مشادة مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري خلال المفاوضات بعد سحب الولايات المتحدة لعرض كانت قدمته لإيران في اليوم السابق.
وتطورت المشادة إلى صراخ وتدخل وزير الخارجية الألماني آنذاك، الرئيس الحالي فرانك والتر شتاينماير الذي جاء من غرفة أخرى ليحذرهم من أن صوتهم مسموع في الخارج.
ومع ذلك كان ظريف يصف وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري بأنه رجل منطقي وأنه يرغب في الوصول إلى اتفاق، لكن الاتفاق منوط برفع العقوبات.
سألت الوزير ظريف يومها عن دبلوماسية الشرفة التي اشتهرت خلال أيام المفاوضات الطويلة، عندما كان الوزير الإيراني يخرج إليها ليخاطب الصحفيين، فكان جوابه أنه لم يكن في الأصل يقصد الخروج إلا لتنشق الهواء، ثم أصبح الأمر مساحة للتفاعل.
عادت العقوبات، ورحل جون كيري، وانتهت دبلوماسية الشرفة، وبقي ظريف يدافع عن آخر معاقله في وزارة الخارجية الإيرانية، ولو بالاستقالة.
في معركته الأخيرة، استخدم الوزير الإيراني أدواته التي جمعها خلال أربعين عام من العمل الدبلوماسي، وظّف أساليب التفاوض مع الغربيين في معركة داخلية وعاد إلى منصبه بعدما قلب الطاولة على الجميع، لكنه يدرك جيدا أن المعارك في إيران تخاض على دفعات، وإذا كان فاز في هذه الجولة، فهو معرّض لما قد لا يتحسب له في جولات قادمة.