التاريخ المختصر لليرة اللبنانية: هل حان وقت الطلاق مع الدولار؟
ملحق رأس المال دان قزي
ولدت الليرة عام 1939. ترعرعت برعاية أُمّنا الحنون فرنسا. وعندما بلغت سن الرشد، ربطت قيمتها في ذلك الوقت بالفرنك الفرنسي، ثم بعدما هُزمت فرنسا في الحرب العالمية الثانية، هجرت الليرة حبيبها الفرنك، وربطت قيمتها بالإسترليني البريطاني الوسيم. وعقب رجوع فرنسا الى لائحة الدول العظمى، عادت الليرة الى حبيبها الأوّل، وربطت حياتها بالفرنك مرة ثانية، وذلك حتى عام 1949 عندما تحررت من الفرنك، أسوة باستقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي، وودّعت الليرة الفرنك وفرنسا، وقالت لهما “au revoir”، وأصبحت عملة عائمة، قيمتها تتحدد بسوق العرض والطلب.
أنجل بوليغان ــ المكسيك
في هذه الأثناء، دخل زعيم جديد على الحي الاقتصادي والجيوسياسي العالمي اسمه الدولار الأميركي. وبدأت قصة جديدة مستمرة حتى الآن.
بين عامي 1964 1981، تحرك سعر صرف الليرة ضمن هامش ضيق، بين 3.22 ليرات و 3.92 ليرات للدولار الأميركي الواحد. ثم في آذار 1981، قفزت الليرة خارج هذا النطاق، وللمرة الأولى أصبح الدولار يشتري 4 ليرات. وفِي شهر حزيران 1982، عندما ظهرت غيوم الاجتياح الإسرائيلي السوداء، أصبح الدولار الأميركي يشتري 5 ليرات. وفِي حزيران 1984، “أخدت الليرة وجه” وأصبح الدولار يشتري 6 ليرات. وهنا فتحت أبواب جهنّم الحمراء على مصراعَيها وانهارت الليرة، حتى بات الدولار الأميركي الواحد يشتري 2382 ليرة في آب 1992.
وفي سنة 1993، جاء حاكم جديد لمصرف لبنان، وضبط سعر الصرف على 1507.5 للدولار الواحد إبتداءً من كانون الأول 1997 حتى هذا الصباح. ومن الواضح أنّ حاكمنا وجد نفسه أمام تحدٍّ هائل، ألا وهو التعويض، بسلسلة من المناورات النقدية، عن عدم وجود خطة اقتصادية جدّية من قبل المعنيين، ناهيك عن إدارة البلاد الأقل من مثالية، والدلف والتسرب في نظامنا الطائفي والعشائري “الفريد” من نوعه.
15%
هي نسبة الفائدة الفعلية على الإيداعات بالليرة لخمس سنوات، وهي تقضي على أي حوافز لتأسيس شركة أو تنفيذ مشروع
من الواضح أن سياستنا النقدية مبنية على مبدأ واحد لا غير يتحكّم بالسياسة الاقتصادية، وهو تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، وهي سياسة مستمرّة منذ أكثر من عقدين. لكن لو كانت هذه السياسة تفي بدور السياسة الاقتصادية وتحلّ مكانها، لكانت كل الدول ضبطت سعر عملتها بالدولار بقيمة ثابتة لا تتغيّر.
لا شك أنه في التسعينيات، كانت سياسة ربط الليرة ضرورية لاستعادة الثقة بالعملة المحلية، أما الآن، فهل هذه السياسة من صلب مهمات البنك المركزي؟ قبل أن نُجيب عن ذلك، يجب أن نجيب عن السؤال الأهم: ما هي المهمة المتعارف عليها عادةً للبنوك المركزية النموذجية؟
حسب النظريات الماكرو اقتصادية “Macroeconomics” الشائعة، فإن مهمات المصارف المركزية الأساسية، أو بالأحرى أولوياتها، تأتي على الشكل الآتي:
1. Price Stability أي الحد والسيطرة على مستوى الأسعار، الذي عادةً يُعرّف بإبقاء التضخم السنوي تحت 2%.
2. Full Employment أي خفض نسبة البطالة إلى أدنى حد ممكن، لكن من دون خرق القاعدة الأولى أعلاه.
ما هو الوضع في لبنان؟
في الواقع، تخطّى معدّل التضخّم في لبنان نسبة الـ 5%، وهو معدّل مرتفع مقارنة مع غلاء المعيشة في الولايات المتحدة الأميركية، التي نربط عملتنا بها، حيث يبلغ معدّل التضخّم هناك نحو 2%. أمّا الأسوأ من ذلك، فهو نسبة البطالة التي تبلغ نحو 25%، وهي تزيد على 37% لدى الشباب، وفق التقارير الصادرة عن البنك الدولي. لاستيعاب مدى كارثية هذه الأرقام، ما علينا إلّا أن نتذكّر أزمة «الكساد العظيم» عام 1929، عندما فقدت البورصة في الولايات المتحدة 90% من قيمتها، وكان الناس يقفزون من فوق ناطحات السحاب في نيويورك للتخلّص من حياتهم، علماً بأنه حينها لم تتخطَّ نسبة البطالة الـ 20%!
طبعاً، عندما تُربط عملة ما بعملة أخرى، يفقد البلد القدرة على السيطرة على أمور عدّة مهمّة، من ضمنها استقلاليته النقدية والاقتصادية. ويصبح الأمر أشبه بالمشاركة في ماراتون ومحاولة اللحاق بأحد العدّائين واتباع خطواته، فإذا قدّم أداءً جيداً يكون الأمر عظيماً، أمّا إذا توقف عن الركض، مثلاً، ليرتاد المرحاض، فعليك التوقف وانتظاره بالخارج، وبالتالي لن يحقق المشترك الفوز أبداً.
ما هي الآثار المترتبة عن ربط الليرة بالدولار؟
تأثر لبنان إيجاباً لسنين عديدة من تثبيت سعر الصرف وربطه بالدولار، إذ سمح هذا الأمر للمقيمين بتقاضي رواتب ذات قيمة أعلى، ما رفع قوتهم الشرائية ومستواهم المعيشي إلى درجة أعلى بكثير مما كان لو أن قيمة الليرة رُبطت بإنتاجية الاقتصاد اللبناني. لكنّنا في المقابل، فقدنا القدرة على تصميم سياسة نقدية مستقلّة ومناسبة لوضعنا الخاصّ. من هنا، عندما يقرّر جيروم باول، حاكم المصرف المركزي الأميركي، رفع الفوائد في الولايات المتحدة الأميركية، كما يحدث الآن، فإننا نضطر إلى رفع الفوائد في لبنان حكماً. وهو أمر سيئ، وخصوصاً في هذه المرحلة التي يمرّ بها لبنان بركود اقتصادي حادّ. فرفع معدّلات الفائدة على الإيداع حتى نسبة 15%، كما أصبحت اليَوْمَ، يقضي على حوافز المستثمر لتأسيس شركة أو مؤسسة أو مطعم أو تطوير عقار أو شراء قطعة أرض أو القيام بغيرها من النشاطات، وبدلاً من ذلك سيفضّل مضاعفة أمواله خلال 5 سنوات (وهي النتيجة الحتمية للإيداع بفائدة 15%).
أمام هذا الواقع، ما هو السعر النموذجي لعملة ما؟ وكيف يحدّد السوق سعر صرف عملة ما غير مربوطة بعملة أجنبية أخرى؟ لنأخذ مثالاً بسيطاً يوضح الفكرة. في بلدين مثل كوريا الجنوبية واليابان، مصنّعان ومصدّران للسيارات وقيمة عملتيهما تحتكمان إلى السوق، إذا قرّر الكثير من المستهلكين شراء سيارات كورية بدلاً من سيارات يابانية، فسيرتفع الوون الكوري على حساب الين الياباني. إلّا أن ذلك سيحسّن تنافسية السلع اليابانية التي انخفضت أسعارها، وبالتالي، في ظروف طبيعية، سيعدّل السوق نفسه، وفق بعض النظريات الاقتصادية. لكن في لبنان، بما أننا لا نبيع سيّارات ولا يوجد لدينا منتجات مهمّة مُعدّة للتصدير إلى الخارج، ومعظم ما نستهلكه مستورد من الخارج، يُحتّم المحافظة على سعر صرف الليرة استقطاب الدولارات الأميركية من الخارج لنموّل إدماننا على السلع الأجنبية الضرورية والكمالية، بدءاً من الأكل والسيارات والهواتف والألبسة، وصولاً حتّى إلى النرجيلة، وهي من هوايتنا الوطنية المفضلة.
في السابق، كنا نحصل على الدولارات من ثلاثة مصادر رئيسية، هي: الاستثمار الأجنبي المباشر والسياحة وتحويلات اللبنانيين المغتربين. اليوم، جفّت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل كلّي، وهذه الحال مستمرّة منذ سنوات عدّة. السياحة تدخّل نحو 4 مليارات دولار سنوياً إلى لبنان، وهناك مبالغة في تضخيم هذه الأرقام، كون الكثير من السيّاح هم من المغتربين اللبنانيين ذوي الجنسيات المزدوجة الذين يدخلون بجوازات سفرهم الأجنبية بسبب صعوبة تجديد جوازاتهم اللبنانية، فضلاً عن كلفتها المرتفعة. أما الآن، فقد ارتفع حجم السياحة اللبنانية إلى الخارج، والتي باتت تمتصّ كمية من الدولارات تقريباً توازي كمية الدولارات التي تولّدها السياحة الوافدة إلى لبنان. ويعود ذلك إلى كون عملتنا المحليّة مقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية، وهو ما يرفع الأسعار محلياً ويجعل السفر إلى الدول المجاورة أقل تكلفة من إنفاق المال في لبنان. أمّا تحويلات اللبنانيين المغتربين، فهي تتراوح بين 7 و8 مليارات دولار سنوياً، وبالتالي لم تعد كافية لتمويل عجز الواردات وعجز مصاريف الدولة وعجز فائدة الديون بالعملة الأجنبية التي تُقدّر بملياري دولار كل شهر.
نقص هائل بالدولارات
هذه الحال أسفرت عن نقص هائل في الحصول على الدولارات، وبالتالي لم تعد المصادر التقليدية لاستقطاب الدولارات باستطاعتها المحافظة على نمط الحياة نفسه، أي أنها لم تعد كافية لتمويل الاقتصاد اللبناني، وهذا هو السبب وراء انتشار مصطلح «الهندسات المالية»، وهي عمليات نقدية تمّت خلال السنوات الثلاث الماضية وارتفعت وتيرتها في الآونة الأخيرة.
معظم اللبنانيين لا يعرفون (ربّما) الكثير عن ماهية هذه العمليات النقدية، ولكن بما أن اسمها “هندسة”، ففي المفهوم اللبناني لا بد أنها حدث إيجابي ومبتكر، لأن كل لبناني منذ طفولته يقال له إنه يجب أن يصبح مهندساً (أو أن يتزوج مهندسةً). فما هي هذه الهندسات “الإينشتاينية” التي تولّد أموالاً طائلة من لا شيء؟ نفّذت أشكال عدّة من الهندسات المالية، إلّا أن الأمر يذكّرني بكتاب «كاما سوترا»، باعتبار أنه مهما تعدّدت الوضعيات، فإنها تقود إلى نتيجة واحدة. من هنا، يمكن تلخيص الهندسات المالية، بوضعياتها المختلفة، بأنها عملية دفع فوائد عالية على الإيداع بالدولار عبر تسديد أرباح وهمية بالليرة اللبنانية (التي تُطْبَع)، وذلك لجذب واستقطاب الدولار، الذي بدوره يُستهلك سريعاً لتمويل الواردات. وبالتالي، لا تحتاج الى أن تكون خبيراً مالياً، أو بروفسوراً متخصّصاً بالفيزياء الذرية، لكي تستنتج بأن هذه الحلول ليست مُستدامة، وإنما هي بمثابة ضمادة توضع على جرح عميق، من دون أن توقف النزف الغزير.
لم تعد المصادر التقليدية لاستقطاب الدولارات كافية لتمويل الاقتصاد اللبناني، وهذا هو السبب وراء «الهندسات المالية» التي ارتفعت وتيرتها في الآونة الأخيرة
هل لا يزال ربط سعر صرف الليرة اليوم ينتج المنفعة نفسها ويسمح للمقيمين بالحصول على مستوى معيشي عال؟ في الواقع، إن الفقاعة العقارية وارتفاع معدّل التضخّم وغلاء الأسعار، أضرّت بالقوة الشرائية لدى غالبية المقيمين، بحيث لم يعد دخلهم يكفي لتمويل استهلاكهم، بدليل ارتفاع مديونية الأسر والأفراد. كما أنها أضرّت بالاستثمارات والاقتصاد المُنتج، بدليل أن مؤسّسات صناعية عدّة أغلقت أبوابها نتيجة ارتفاع أكلافها وفقدان قدرتها التنافسية، وكذلك فعلت مؤسّسات سياحية ومطاعم عدّة، وهو ما زاد نسبة البطالة التي ساهمت في تردّي القوة الشرائية أكثر وأكثر، وهكذا تتفاقم هذه الدوامة السلبية.
لذلك، حان الوقت للتفكير بسياسات اقتصادية ومالية بديلة وجدية، ومن بعدها إعادة النظر بهذا “الزواج الماروني” بين الليرة والدولار. والسؤال الأهم، هل لدينا خيار في هذا الشأن، وخصوصاً أن ثمن الدفاع عن هذا “الزواج”، مع استمرار الظروف نفسها، قد يؤدّي إلى ارتفاع معدّلات الفائدة إلى 25% في السنة المقبلة، وصولاً إلى 40% خلال السنوات اللاحقة، مع ما يحمله ذلك من تداعيات مؤذية وخطيرة؟
الشريك الجديد الأجدر بليرتنا، يمكن أن يكون، على سبيل المثال، سلّة من العملات الأجنبية تعكس الموازين التجارية للبلدان التي نتبادل السلع معها. ولهذا الحديث تتمة.